"المعايير الأخلاقية".. وثيقة تحقّق التوازن بين حقِّ الصحفى وخصوصية المشاهير.. وتمنع "الدُخَلاء"

د. أحمد عبداللطيف جاب الله.. رئيس مجلس إدارة "سُكْنَى":

هدفنا تحقيق راحة الإنسان.. دنيا وآخرة

نسعى لتكريم المتوفَّى.. والإنابة الكاملة عن أهْلِه

حوار مصطفى ياسين

عُرِفَ عنه منذ صغره، حب التمرّد وعدم القبول بأى درجة نجاح، والرغبة فى البحث عن الجديد والغريب، وعشق التحدى، بل الجمع بين المتناقضات فى آن واحد.

فرغم نشأته وسط أسرة تعمل كلها فى مجال الطب بمختلف تخصصاته، وحصوله على بكالوريوس الطب- تلبية لرغبة الأسرة- حرص على اقتحام مجال علوم الحاسب الآلى والكمبيوتر، ونجح فى أكبر شركات الإنترنت (جوجل، أدوبى، فيس بوك)، لم يكتف بهذا بل مارس الأنشطة التجارية والاستثمارية بتوظيف مواهبه وخبراته التعليمية وهواياته.

وبعد كل المراكز والمناصب التى نالها عالميا، حوَّل مساره 180 درجة، تجاه "الآخرة" بنظرة "استثمارية" أيضا، فأسَّس شركة "سُكْنَى" لتكريم الإنسان وكأنه "حانوتى ديجيتال"!

إنه الطبيب أحمد عبداللطيف جاب الله، صاحب السيرة العجيبة فى معظم مراحلها.

والذى يعد نموذجا لكثير من الشباب المصريين الراغبين فى السفر والنجاح، ومن خلال الحوار التالي، نتعرف على سيرته وكفاحه المثير. 

* نتشوَّق لمعرفة سيرتك التى حيَّرت الكثيرين، حتى داخل أسرتك، فماذا تقول عنها؟

** عُرفت منذ صغرى بالرغبة فى دخول مجال المال والأعمال "البيزنس"، لكن نظرا لأننى من أسرة كلها تعمل بمجال الطب، حيث أن والداي الاثنين من أشهر الأطباء فى مجالهما، والدى طبيب عظام، ووالدتى طبيبة رمد، ورئيسة جمعية الرمد المصرية، وكذا أخى طبيب رمد، وكذا أخوالى وخالاتى أطباء.

فكان الاتفاق مع والداي هو دخول كلية الطب، ثم بعد التخرُّج، أسْلُكُ ما أريد فى حياتى العملية، وبالفعل حقّقت لهما ما أرادا، حيث حصلت على مجموع 95,5%، وتخرّجت من كلية الطب البشرى، غير أننى منذ ثانى يوم بعد حفل التخرُّج سافرت إلى أمريكا. 

وكنت قد اتجهت لدراسة علوم الكمبيوتر والتكنولوجيا بالجامعة الأمريكية، خلال دراستى للطب، وهذا بناء على استطلاع رأى أجريته مع عمّى الصيدلي المقيم فى أمريكا منذ فترة طويلة، وسألته عن أكثر المجالات التى يحتاجها سوق العمل وقتذاك.

والحقيقة أننى منذ صغرى كنت أعْشَق دخول التحديات الصعبة مع نفسى، وعشقت ركوب الخيل والفروسية ولعبة "البولو" وشاركت فى بطولات مختلفة وحصلت على المراكز الأولى.

الصبى العامل!

وكنت محبًّا لفكرة أن الشخص يعمل بجانب الدراسة، حبًّا فى العمل لذاته وليس إضطرارا لذلك، لذا وأنا فى الصف الثالث الإعدادى، قرأت إعلانا مبوَّبًا فى إحدى الصحف (مطلوب مندوبين إعلانات)، فارتديت ملابسى واستلفت "كرافتة" والدى، ولم أخبر أحدا بما أنوى عمله، وكل المتقدِّمين للاختبار استغربت من وجود صبى صغير بينهم للعمل فى مجال عقارى، والحمد لله نجحت بعد أن رأوا فىَّ صبى إمكانية تقديم نفسه وطريقة عرضه جذابة فى الشرح، وبدأت العمل وأثناء عرضى لمنْتَج القُرى السياحية على بعض العملاء فوجئت بإحدى السيدات تعرفنى، فأبلغت أسرتى، فاضطررت لترك العمل بعد 3 أيام فقط!

وبعد تخرّجى من الجامعة الأمريكية، سافرت إلى أمريكا بهدف الفسحة والتعرّف على الأوضاع لمعرفة ماذا سأفعل فى مستقبلى، رغم أنى درست برمجة الكمبيوتر- ولم أعشقها لأنى أفضِّل التعامل المباشر مع الناس وليس الأجهزة- بجانب الطب طبعا، لكنى لم أجد نفسى فى أيٍّ منهما، فبحثت عن المهارات التى بداخلى للانطلاق، بعيدا عن الاعتماد على الأهل والاستقلال المادى، فاستعدتُ مواهبى فى ممارسة ركوب الخيل، بجانب مهاراتى فى تعليم اللغة الفرنسية بحُكْم تخرّجى من مدرسة فرنسية، فضلا عن عشْقى للرياضيات، فبدأت بالمنازل المجاورة لسَكَن عمِّى وعرضتُ عليهم تدريب أبنائهم على ركوب الخيل الخاصة بهم، وكذا العمل بـ"الساعة" بمعهد لتعليم الأبناء اللغة الفرنسية والرياضيات، كمدرِّس خصوصى.

ولفت نظرى وجود "كافيهات" ناجحة جدا فى هذه المنطقة، مثل "لاسكالا"، فعرضت على عمّى الصيدلى فكرة إقامة "كافيه" بتمويله وإدارتى، وحتى أكتسب الخبرة والمهارة اللازمة، عملت فى ذلك الكافيه فترة للتعرُّف على أسباب النجاح وطُرُق الإدارة والتعامل مع الزبائن، والخدمات المقدَّمة، وهكذا.

فخرجت بفكرة إقامة "كافيه" فى منطقة أخرى، ولكن بمنظومة مختلفة خاصة بنا، فقدَّمنا خدمات "الواى فاى" بحيث يستطيع الزبون إنجاز أعماله، ونجحنا نجاحا كبيرا.

العمل فى "جوجل"

لكن لم أستمر، نظرا لالتحاقى بالعمل فى شركة "جوجل"، عن طريق إحدى صديقات العائلة وتعمل فى "جوجل"، وبالفعل تقدَّمتُ 9 مرات ولم أُقْبَل!

وهناك يعملون بمنظومة عمل مختلفة تماما عن أى مكان، ويوفِّرون المناخ المناسب للإبداع، فهم لا يتعاملون كرؤساء ومرؤوسين، وجدت القادة يقومون بعمل "المساج" للموظفين! ويقدِّمون لهم 3 وجبات مجانية! ويغسلون لهم ملابسهم كاملة بالمكواه! وكانت هذه هى الخدمة الفارقة فى حياتى لكراهتى مسألة "الغسيل".

واكتشفت أنهم لا يقبلون سوى 1% من المتقدِّمين للعمل، ولا ينظرون إلى "السيرة الذاتية"، فطلبت من صديقتى التقدُّم لى بطلب من داخل الشركة وتزكيتى، وأيضا لم أتلق ردا! لكنى لم أيأس وظللت أطارد صديقتى "رانيا" بالإيميلات والتليفونات، ولم ترد علىَّ لانشغالها الشديد! ثم أرسلت لها "فاكس" على الشركة، وهكذا ضمنت أن شخصا آخر- غيرها- سيعرف الطلب! وبالفعل اتصَلَت هى علىَّ، حتى تلقيت اتصالا منهم، واستقبلونى للاختبارات فى 9 مراحل مختلفة، حتى وصلت للمدير المسئول، ومن واقع تجاربى الكثيرة عرفت أن معظم الأقلام المُجَهَّزة للاختبارات تكون غير جيّدة، فكنت أحمل معى أدواتى الخاصة، فكانت نقطة لصالحى أعجبت المسئول، واعترفت له بأننى فشلت كثيرا ولكن لدىَّ الرغبة فى التعلّم، بدليل الاختبارات التسعة السابقة، وكيف أنى بحثت عنها وتعلَّمت منها، وأجبتها له جميعها!

واستمرّيت معهم 4 سنوات ونصف، بدأتها بتصليح أجهزة الكمبيوتر، وبعد 3 أشهر بحثت عن المهارات التى أستطيع العمل فيها، فوجدت نفسى الوحيد المتحدّث باللغة العربية، بجانب شخصين فى أوروبا! وأدركت عدم جودة "البحث" بالعربية على "جوجل" وقتذاك.

واستثمرت فرصة انعقاد الحفل الدورى الذى يحضره قادة الشركة مع الموظّفين، لعرْض ما تم إنجازه، والعقبات والنجاحات، والرؤى المستقبلية، وعرضتُ عليهم العمل فى مجال تجويد "البحث" باللغة العربية لخدمة 300 مليون شخص عربى، ثم انتقلت لوظيفة "مدير المنتجات" كمسئول عن ترجمة وتحقيق مطالب المستخدمين وترجمتْها تقنيًا، فساهمت فى مشاركة "العرب" بالمقالات فى كل مجالات الحياة، عن طريق اتّفاقى مع رؤساء الجامعات فى الدول العربية، ومشاركة الطلاب فى مسابقات، فاشترك معنا مليون طالب مصرى وسعودى، وظهر التحسُّن الكبير على مؤشّر "البحث" فى جوجل. فحصلت على مكافأة كبيرة تمثّلت فى أسهم وشهادات فى الشركة، فكانت مرحلة فارقة ونقطة تحوّل لى مع "جوجل".

تغيير الوجهة

* ورغم هذا النجاح لم تستمر فى "جوجل"، فما كانت الوجهة الجديدة؟

** هذه طبيعتى لا أستطيع الاستمرار فى وضع واحد معيّن مهما كان رفيعا وكبيرا، ففكّرت، وماذا بعد؟ فبجانب منصبى كـ"مدير منتجات" عملت فى وظيفة "المساعدة فى اتخاذ القرار" من خلال تحليلات البيانات، وكيف نساعد الشركة فى اتخاذ القرارات الصحيحة.

فى هذه الفترة كانت "جوجل" تمنح موظّفيها "بادجت" عبارة عن مِنَح دراسية وتدريبية، تصل 12 ألف دولار سنويا، لمن يريد استخدامها، فكنت لا أُفوِّت أى فرصة منها، خاصة وأنها منح فى جامعة ستانفورد الشهيرة، عبارة عن دروس فى مختلف مجالات الحياة والعمل واتخاذ القرار الصحيح، وهناك تعرّفت على إحدى المسئولات فى شركة "أدوبى" المتخصصة فى "الفوتو شوب" والمتعلّقة أكثر بالعمل الصحفى، وعرفت منها سعى شركتهم الحثيث لدخول المنطقة العربية دون جدوى، نتيجة تقنية عمل أجهزتهم من (اليسار لليمين) واللغة العربية تحتاج العمل من (اليمين لليسار)! ولا يوجد متخصص يستطيع تيسير ذلك! فأخبرتها بسهولة هذا! فتعجَّبَتْ وأبلَغَت رؤساءها، فطلبونى وألحُّوا فى طلبهم، بل منحونى سُلْطات أوسع بالعمل على منطقة الشرق الأوسط كاملة وشمال أفريقيا، بإنتاج أكبر 5 منتجات، وطريقة مقابلة وتعامل مديرة الشركة شجّعتنى على الانتقال إليهم، خاصة رغبتها فى تعليم فريق عملها كل الخبرات، فكانت من أفضل مراحل حياتى العملية، وتعلّمت صناعة المنتجات، واكتسبت خبرات واسعة طوال فترة 4 سنوات ونصف، لدرجة أنهم أضافوا إلىَّ منطقة الهند، وهى صعبة جدا لكثرة لغاتها ولهجاتها، فكنت مسئولا عن 10 لغات هندية وأنا لا أعرف حتى واحدة منها! فكنت أسافر إلى الهند مرة كل ثلاثة أشهر، والحمد لله نجحت، فكلَّفونى بدول أخرى مثل: ألمانيا، فرنسا.

وهنا شعرت أننى وصلت إلى النقطة الأعلى التى ليس بعدها شئ، إلا العودة بالتفكير فى شئ جديد!

مرحلة "فيس بوك"

فى هذا التوقيت ظهرت "فيس بوك" وكان هناك تنافس شركات عالمية لشرائها، خاصة بعد نجاحها المذهل، وأرسلوا فى طلبى أكثر من مرة، لكنى لم أهتم لعدم معرفتى ماذا سأفعل وما هو مستقبلها؟!

واستمر "كافين" الشخص الوسيط يحاول معى لمدة عامين ونصف، وهو يعرفنى منذ عملى فى "جوجل" وكانوا يُطلقون علىَّ "المدفع الرشَّاش"! بمعنى أى مكان يوجّهونى إليه أنجح فيه!

فوافقتُ، وأسندوا إلىَّ مهمة الدخول إلى السوق اليابانى، بعد عجزهم الطويل، فضلا عن التوسّع فى عدد كبير من دول العالم، من خلال التعامل المباشر مع "بيرج" المؤسِّس لـ"فيس فوك".

فعكفت على دراسة كل صغيرة وكبيرة عن اليابان، وعرفت "لاين" وهو "فيس بوك اليابان"، وتعرَّفت على العقلية اليابانية وتقدّمها التقنى، وحدث معى شيئان: الأول تقنى، فهناك مشكلات تقنية إذا تغلّبنا عليها تضع شركتنا فى مكانة متقدّمة جدا، أولها كيفية إنشاء حساب لأول مرّة، حيث كانت شركة الاتصالات تضع "بلوك" على كود التواصل.

فضلا عن المنافسة الشديدة ولا مجال للرأفة أو الرحمة فى التهاون، فكان الشخص عندهم لا يتجاوز 9 أشهر ويتغيّر إذا لم يتطوّر ويُنَمِّى ذاته.

الأمر الثانى: مثلا فى مصر، الشخص يُنشئ حسابا على فيس بوك، لماذا؟ حتى يُخبر معارفه وأحبابه بما يفعله ويعرض عليهم صوره ونشاطه، حتى يتفاعلوا معه، ولتحقيق ذلك يحتاج على الأقل إلى 76 صديقا افتراضيا، وفى الهند يحتاج إلى 200 صديق وأكثر.

واكتشفنا أن النجاح فى اليابان لا يحتاج لتفاعل أصدقاء كُثُر، فالشعب لا يحب الظهور، بالعكس فهو منغلق على نفسه جدا، فإذا زاد الأصدقاء عن 5 أو 6 وهم أصدقاء المدرسة أو الطفولة الذين يرتاح لهم، فلن يتفاعل، والحلّ بالنسبة لنا كان إما تقليل عدد الأصدقاء أو عرْض معلومات وصفحات أخرى، دون إضطراره للكتابة أو الظهور، فغيَّرنا سياسة الشركة طبقا لطبيعة وثقافة المجتمع اليابانى، وبالتالى انطلقت الشركة، وتحوَّلت خسارتها من 200 ألف مستخدم شهريا، إلى المكسب بنفس العدد تقريبا! وكرَّرنا نفس السياسة فى كولومبيا.

لكن فى منطقة الشرق الأوسط والعربية، بدأنا خدمة: كيف نعرِّف الناس على أصدقائها؟ وكيفية البحث؟ وبدلا من الكتابة تستخدم الفيديو؟ أو وضع الاستيكرز أو الإشارات "الإيموشن"، واكتسبناها من اليابان، فهم يستخدمون "إيموشن الباندا" كجزء من الثقافة، وغيَّرنا بأشكال القلب واللايك والتعجّب والاندهاش وغيرها، كل هذا لإبقاء المستخدِم أطول فترة ممكنة على صفحة الفيس بوك.

واستمرّيت فى عملى هذا لمدة خمس سنوات ونصف.

شركة "الجنازات"!

* بعد هذه الرحلة الطويلة الدراسية والتكنولوجية العالمية، كيف كانت نقطة التحوُّل الكبرى نحو تأسيس شركة لخدمة "الجنازات"؟!

** صحيح أننى عملت فى مجال التكنولوجيا أكثر من 16 عاما، وأحببته وتفوَّقت فيه، وكان بإمكانى الاستمرار فيه وتأسيس شركة خاصة.

وبالفعل حصلت على إجازة للتفكير فى العمل المستقبلى، فأقمت فى جزيرة هاواى، ولكن بعد 3 أسابيع شعرت بعدم الراحة وأنه لا لزوم لى فى الحياة، لأنى لا أقوم بعمل مفيد لى أو لأى شخص، وشعرت بأن عقلى بدأ يتوقّف عن التفكير!

فقرّرت العودة للعمل، ولكن فى مجال مختلف، ألا وهو "تجهيز الجنازات" وما دفعنى لهذا، موقفان، الأول: أثناء دراستى بالجامعة الأمريكية فى القاهرة، توفِّىَ والد صديقى، فطلب منى مساعدته والوقوف بجواره فى أزمته، وكانت أول مرة لى حضور جنازة، فكان يوما صعبا علينا نحن الاثنين، بسبب شعوره بفقدان والده، ثم العشوائية فى المشاهِد والتصرّفات التى صاحبت الجنازة وإجراءات التصاريح ولوجستيات استخراج الأوراق، والدفن، وما بين ذلك كثير، فكانت تجربة قاسية ومريرة على أسرته! فقرّرت يومها عدم حضور أى جنازات أخرى!

وتكرّر نفس المشهد معى فى أمريكا، ولكن بشكل مختلف، فبعد رحلة كفاحى فى العمل، وقُبيل استراحة المحارب، قرّرت شراء منزل على البحر فى سان فرانسيسكو، وبعد 6 أشهر مفاوضات للشراء، تعرّفت خلالها على السمسار "هِيْرب" معرفة شخصية، وأردتُ عزومته والبائع على الغداء، وفى الموعد المحدّد فوجئت بوفاة السمسار، وأخبرتنى ابنته بذلك عبر الهاتف! فكانت ثانى جنازة مضطر لحضورها! فوجدتها منظَّمة باحترافية، واحترام لآدمية المتوفَّى، رغم اختلاف الثقافات والتقاليد، والشُرْطَة تتولّى إفساح الطريق أمام الجنازة! وكان هذا عام 2013.

ومنذ ذلك الحين، عَلَقَت الفكرة فى ذهنى، وكلّما سافرت إلى أى مكان بالعالم أحرص على متابعة ومعرفة طُرُق الدفن، وطبيعة المقابر، وتعامل الثقافات المختلفة مع الجنازات!

ومن هنا قرّرت الدخول فى عالم "تنظيم الجنازات" لأن هذا العمل له هدف وتأثير جميل على الناس، وفكّرت بالعودة إلى مصر وتأسيس شركة متخصّصة فى هذا المجال، وبدأت أُفاتح أهلى فى العودة، فرحوا كثيرا، ولكنهم عندما عرفوا بمشروعى، والدى قاطعنى، والدتى تذكَّرت مواقف مؤلمة حين وفاة والدتها، فشجّعتنى، ولمعرفتهم أنى "عنيد" لم يعترضوا طويلا.

وتحدّثت معى زميلى المهندس حسين، للبحث عن دراسة جدوى المشروع، والذهاب إلى "الحانوتى" ومعرفة أساليب وطُرق عمله ومشاكله. وجهَّز لى 12 شخصا مستعدّين للتعاون، وأعجبنى واحد منهم "يوسف": مُرَتَّب، مُنَظَّم، يفكِّر بشكل مختلف، تطوَّع بالعمل معى قائلا: "هَدِّيْك سَنَة من عُمرى!"، وأواخر 2018 سجَّلت الشركة، وبدأنا فعلا فبراير 2019، بحضور الجنازات، وسافرنا إلى عدد من الدول العربية والإسلامية، خاصة جنوب شرق آسيا، لدراسة كل الخطوات التالية، وكيفية حل المشكلات والعقبات فى كل خطوة.

وتأكَّدت من وجود 3 محاور فى تعامل الناس مع حالة الوفاة، وهى الحقيقة الواحدة الثابتة والمؤكَّدة على كل البَشَر، تتمثّل فى: الأساس الدينى، الثقافى، القانونى.

وهذا حتى نشكِّل منظومة إنسانية، تقنية، قانونية، علمية، بحيث نبدأ من حيث انتهى الآخرون، لا أن نكرِّر نفس التجارب!

ونجحنا فى تنظيم 19 جنازة، وفى كل مرة نتعلّم ونغيِّر، وفى خطّتنا الحالية التوسّع بعد أن آمن الناس بالدور الذى نقوم به وقيمته، بما يؤكد أننا نلبِّى احتياجاتهم وليس اختراعا، وبالفعل تم تعيين أول 6 أشخاص، وبدأنا نكبر، ونتولّى إجراءات الجنازة منذ أول اتصال بنا، من استخراج تصاريح الدفن، الغُسْل- كلٌّ حسب دينه، مسلمين ومسيحيين- ومعرفة المساجد والكنائس القريبة والمتاحة، مسار السيارة "لايف" تجنبا للزحام أو الانحراف عن الطريق، تجهيز المقابر والتوابيت، حجز السرادقات والمُقرئين، إعلانات الصحف، الصدقات الجارية، تقديم الورود، وغيره من متطلبات الوفاة.

وأكثر من هذا بدأنا نقدّم خدمات ما قبل وما بعد الوفاة، مثل: توفير المقابر، الترتيب المسْبَق لأناس يعيشون بمفردهم يريدون الاطمئنان على إجراءات الدفن إذا حدثت الوفاة، عائلات لا تعرف أماكن مقابرها إلا من خلال كبارهم، وكيفية الاستعداد لهذا اليوم، ولدينا برنامج "الترتيب المسْبق" وهو من أنجح برامجنا، وما بعد الوفاة، مثل: استخراج شهادات الوفاة، إعلام الوراثة، كل هذا بطريقة مهنية، شفَّافة، فى أقْصَر وقت، بأقلّ التكاليف. ومناسبات إحياء الذكرى المختلفة، كل هذا بناء على دراساتنا لاحتياجات السوق.

"دليل كوفيد"

حتى جاءت كارثة "الكوفيد"! وكان أمامنا خياران: الاستسلام والتوقّف، أو الاستمرار!

بالفعل توقّفنا، لكن دون استسلام، بمعنى التوقّف لمدّة شهر حتى نفهم الوضع الجديد، وقام فريقنا بعمل بحث، وكانت أمريكا أعلنت إجراءات "كوفيد" قبلنا بثلاثة أشهر، سافرت لأمريكا والتقينا الأطباء، وتعرّفت على كيفية التعامل مع حالات الوفاة بطريقة وقائية مضبوطة، وقرأنا تقارير كل المنظمات المتخصصة الدولية والإقليمية، وأصدرنا "دليل التعامل مع وفيات الكوفيد"، وأرسلناه للمستشفيات المصرية لمراجعته والإدلاء برأيهم حول بنوده، فأُعْجِبوا به، وطلبوا الإذْن باستخدام خطواته، ثم أسندوا لنا تولّى مسئولية التعامل مع حالات الوفاة، ومن هنا استأنفنا العمل بعقد بروتوكولات مع تلك المستشفيات، أولها مجموعة "كليوباترا"، فكانت الانطلاقة الكبرى لنا.

الاسم والمعنى

* لقد نجحتم فعلا فى الفكرة واختيار الاسم، فمن أين استخرجتم الاسم؟

** هو من الهدوء والسكينة، وكذا السكن الدائم والمُسْتَقَر الأخير لكل شخص، وهو تعبير عن هدف الشركة، القريب والبعيد.

فأهم هدف هو: تكريم المتوفَّى، تخفيف وحَمْل العبء عن كاهل أهل المتوفَّى، ليتفرّغوا لمشاعرهم الإنسانية فى هذا الوقت العصيب.

لذا فكل أعضاء فريقنا يعمل فى صمت، قرابة 100 عضو، موجودين بدون أن يشعر بهم أحد، يُنهون كل الإجراءات دون أن يتحمّل أهل المتوفَّى همَّ أى خطوة.

خارج الحدود

* هل هناك خطط للعمل خارج الحدود، بمعنى نقل الجثامين من وإلى مصر؟ وكذا بين المحافظات المصرية؟

** طموحنا لا حدود له، فلدينا تطلُّعات مستقبلية بدراسة الأسواق المختلفة، وتطبيق النموذج المصرى عربيًا ودوليًا. وبالفعل نصل لكل مكان فى مصر.

وأكثر من هذا، نقوم بنقل الجثمان من خارج إلى داخل مصر، بالتعاون مع الجهات الحكومية والقنصليات المصرية. وأيضا العكس، حينما يُتوفَّى الأجنبى المقيم أو الزائر لمصر، نقوم بنقله إلى بلده، وبالفعل تعاقدنا مع سفارة المكسيك فى هذا الإطار.

وتعاقدنا مع شركة الشرقية للدخان، ونتكفَّل بإجراءات أى موظّف أو أقربائه، بمجرد اتصال الشركة بنا، فكانت من أكثر المساعدات الاجتماعية للموظّفين.

ونفس الشئ مع النقابات المهنية المختلفة، فجدَّدنا التعاقد مع نقابة المهن التمثيلية، والصحفيين، وفى الطريق عدد من النقابات الأخرى.

ضوابط التغطية الإعلامية

* فيما يتعلّق بنقابة المهن التمثيلية، كيف يتم التعامل والتنظيم، للتغطية الإعلامية لجنازات المشاهير والفنَّانين؟

** هذا جانب مهم جدا، لأن جنازة المشاهير والفنانين والشخصيات العامة، تتطلّب التوثيق من خلال التغطية الإعلامية، ولذا لابد من تكاتف وتعاون أكثر من جهة، واتّفقنا العام الماضى، مع نقابتى الممثّلين والصحفيين، على مجموعة من المعايير والضوابط الأخلاقية والمهنية، بحيث تتيح للإعلامى والصحفى ممارسة العمل بشكل مُيَسَّر، فهذا حق المواطن، وأيضا الحفاظ على المشاعر والخصوصية للمتوفَّى وأهله ومُعَزِّيه.

فوضعنا 10 ضوابط، هى: قاعدة بيانات معتمَدة من شُعبة المصوِّرين والصحفيين بالنقابة، بأسماء من يحقّ لهم الدخول والتصوير، ومنْحِهم "فاسْت وآيدى" بـ"كود" معيَّن. تخصيص "بارتشن" مكان لتواجد المصوِّرين يتيح لهم التقاط الصور دون إحداث ما يخالف القواعد والضوابط. توجيه النقابة بالتعاون مع الإعلاميين فى المكان المخصص لذلك. تخصيص جروب واتساب يحدّد للمصورين كل الخطوات اللازم اتباعها. ترشيح أماكن مناسبة لإقامة الجنازات. وضْع سياسات وقواعد واضحة متّفق عليها، وإجراءات رادعة لمن يتجاوزها. قيام الشركة بالاتفاق مع أهل المتوفَّى على تخصيص مكان ووقت للإدلاء بتصريحات للإعلاميين، وفى هذا منع لتطفل الدخلاء والمتطفلين على العمل الإعلامى والصحفى، وحفظ لخصوصية أهل المتوفَّى ومراعاة مشاعرهم.

0 تعليقات

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم