في عالم التصوف المغربي الهادئ، حيث تتمازج التقاليد بالروحانية منذ قرون، تبرز شخصية برؤية جريئة وملتزمة، إنه مولاي د. منير قديري بوتشيش، الوريث للطريقة القادرية البوتشيشية، الذي يجسد تصوفًا متجددًا يواكب تحديات القرن الحادي والعشرين، تصوفًا لا يقتصر على التأمل والذكر فحسب، بل يساهم في بناء مجتمع أخلاقي ومواطن ومسؤول ومتجه نحو المستقبل.
وُلد مولاي منير داخل أسرة صوفية عريقة، فهو نجل الدكتور جمال الدين القديري البوتشيشي، شيخ الطريقة القادرية البوتشيشية، وأحد الشخصيات البارزة في التصوف المغربي. حاصل على دكتوراه في العلوم الإسلامية والأنثروبولوجيا الدينية، وخبير في الذكاء الاقتصادي والمالية الإسلامية، وقد استطاع أن يجعل من مهمته الروحية التزامًا ملموسًا تجاه التنمية البشرية والاقتصادية. ويعكس مساره الأكاديمي وأدواره كرئيس لمؤسسة الملتقى، ومدير الملتقيات العالمية للتصوف، ومنسق القرية التضامنية، إرادته في الربط بين الروحانية والعمل الفعلي.
القرية التضامنية: ملتقى الاقتصاد التضامني والتنمية المستدامة
تعد القرية التضامنية، التي تُنظم منذ ستة عشر دورة، حدثًا بارزًا أصبح منصة أساسية لدعم الاقتصاد التضامني وريادة الأعمال والمبادرات المستدامة. هذا الموعد السنوي يجمع رواد المشاريع، والخبراء، والمؤسسات لدعم حلول ملموسة في مجالات الابتكار الاجتماعي والاقتصاد الأخلاقي.
قيادة صوفية قائمة على الاستمرارية والابتكار
لطالما تميزت الطريقة البوتشيشية بتوارث متناغم بين رموزها الروحية، حيث يوجد انسجام مثالي بين الدكتور جمال الدين القديري البوتشيشي وابنه مولاي منير، فكلاهما يمثلان تطور التصوف المغربي وتأقلمه مع متغيرات العصر. كل واحد منهما أضاف لبنة أساسية في بناء الطريقة وتعزيز إشعاعها، مع المحافظة على إرثها الروحي العريق.
وقد لعب الدكتور جمال الدين القديري البوتشيشي دورًا محوريًا في تحديث وسائل نشر رسالة التصوف، لا سيما خلال جائحة كوفيد-19، حيث كان رائدًا في إدماج الرقمنة للحفاظ على الارتباط الروحي والتعليمي بين المريدين. بفضل جهوده، استطاعت الطريقة استغلال التكنولوجيا الحديثة لتوفير الدروس الصوفية عبر المنصات الإلكترونية، وعقد مؤتمرات افتراضية، وتنظيم لقاءات تفاعلية، مما عزز من تأثيرها وانتشارها عالميًا.
يندرج هذا النهج التجديدي في إطار حرص الطريقة على تطوير أساليب نقل الرسالة الصوفية وجعلها متماشية مع متطلبات العصر الحديث. في هذا السياق، يعمل مولاي منير على ترسيخ الأسس الروحية للطريقة، مع إدماج ديناميكيات جديدة تهدف إلى تحقيق تكامل بين الروحانية والتعليم والانخراط الاجتماعي والاقتصادي، حتى يتمكن المريدون والأجيال القادمة من الاندماج الكامل في المجتمع مع الحفاظ على هويتهم الروحية.
إن التحالف بين الدكتور جمال الدين القديري البوتشيشي ومولاي منير هو نموذج حي لقدرة التصوف المغربي على التطور والتكيف، بعيدًا عن الجمود، من خلال تقديم إجابات حقيقية للتحديات المعاصرة. هذا التوازن بين الأصالة والتجديد جعل من الطريقة البوتشيشية قوة روحية مؤثرة تمتلك قدرة فريدة على الجمع بين التقاليد والحداثة في تناغم دقيق ومتوازن.
الثوابت الدينية: دعامة الهوية المغربية
على مدى قرون، استطاع المغرب الحفاظ على استقراره وتماسكه الاجتماعي بفضل ثوابته الدينية، التي تُشكل الأساس لهويته ووحدته. وهذه الثوابت، وهي إمارة المؤمنين، المذهب المالكي، العقيدة الأشعرية، والتصوف الجنيدي، تتكامل فيما بينها بشكل متناغم، حيث تضمن الاستمرارية بين الماضي والحاضر، وتنظم العلاقات الاجتماعية، وتشجع على الارتقاء الروحي والفكري.
لقد شكلت هذه الأسس الدينية حصنًا يحمي المغرب من جميع أشكال التطرف والانحراف، وساهمت في ترسيخ العلاقة الوثيقة بين المواطنين وقيادتهم، حيث يؤدي كل طرف دوره في الحفاظ على القيم والتقاليد الراسخة للمملكة. وتُعد إمارة المؤمنين مؤسسة فريدة من نوعها في العالم الإسلامي، تضمن ليس فقط الوحدة الدينية للبلاد، بل تشرف أيضًا على الشأن الروحي بطريقة متوازنة وشاملة.
بفضل هذه البنية الدينية المتماسكة، استطاع المغرب أن يجتاز الأزمات محافظًا على مكانته كنموذج للتوازن، حيث تتلاقى فيه الروحانية بالاستقرار والحداثة. فهذه المبادئ ليست جامدة، بل تُشكل إطارًا ديناميكيًا يسمح بمواكبة تطورات المجتمع المغربي، مع الحفاظ على أصالته وهويته الثقافية والدينية.
تصوف عملي لمغرب في حركة مستمرة
لا يكتفي مولاي منير قديري بوتشيش بنقل الإرث الروحي فحسب، بل يسعى إلى تشكيله بما يتناسب مع تحديات العصر. من خلال التوفيق بين التقاليد والحداثة، وبين الإيمان والانخراط الاجتماعي، يُعيد تعريف دور التصوف في مجتمع دائم التغير. وتستند هذه النهضة الصوفية إلى أسس قوية، تنطلق من الثوابت الروحية للمغرب، مما يؤكد على أهمية إمارة المؤمنين كضامن للوحدة الدينية، والتصوف الجنيدي كنموذج للارتقاء الروحي، والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية كإطار فقهي وعقدي متوازن.
ومن خلال التزامه بهذه الرؤية الشاملة، يؤكد أن التصوف ليس مجرد تراث من الماضي، بل هو قوة محركة للتغيير والتجديد، وأداة لتنمية الفرد والمجتمع، ورافعة لتعزيز القيم الأخلاقية والروحية.
بعيدًا عن الصورة النمطية للتصوف التأملي المنعزل عن الواقع، يُجسد مولاي منير تصوفًا عمليًا يُلهم ويوحد، تصوفًا لا يقتصر على الدوائر الروحية بل يمتد إلى جميع مجالات الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية في المغرب.
رهانه واضح: جعل التصوف قوة دافعة للتنمية، وحصنًا ضد الانحرافات المتطرفة، ووسيلة لتحقيق الازدهار الفردي والجماعي. إنه رهان طموح، لكنه بدأ بالفعل يُؤتي ثماره من خلال رؤيته وعمله والتزامه المستمر.
"منقول"
إرسال تعليق