"المرأة العربيّة والإبداع الشعريّ"

بقلم.. د. كريمة نور عيساوي

أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات - تطوان، المغرب

الصورة النمطيّة التي طُبعت في الأذهان عن المرأة عموماً، وعن المرأة العربيّة والمُسلمة على وجه الخصوص، لا تحمل إلّا جزءاً يسيراً من الحقيقة، في حين تمّ تغييب الجزء الأكبر من هذه الحقيقة لأسبابٍ عدّة، منها الصمت الخانق الذي أُطبق على المرأة على امتداد قرون من الزمن، وإهمال الكتابات النسائيّة ونعْتها بالضعف، على الرّغم من كثرة المصنّفات التي عنيت بأدب النساء في وقت مبكّر من تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة.

لعلّ السبب الأبرز وراء تلك الصورة النمطيّة للمرأة يتمثّل بالمركزيّة الغربيّة التي يغذّيها الخطاب الاستشراقي، والعداء المكشوف للدّين الإسلامي، بحيث يتمّ تسويق فكرة مغلوطة عن موقف الإسلام من المرأة يجعل منه العدوّ الأوّل والمباشر لها، من دون مُبالاة بالتغيير الجذريّ الذي أحدثه الإسلام في وضعيّتها. فقد كرَّمَ الإسلامُ المرأةَ كأمّ وأخت وزوجة، وأعاد لها ما سُلب من حقوقها الاجتماعيّة. ومن ذلك قول الشيخ د. صبحي الصالح: "وتكريم المرأة هو أهمّ ما نادى به الإسلام لإصلاح الأسرة التي كانت قبله تتخبّط في الظلام، فقد بلغ الإسلام في تكريم المرأة ما لم يبلغه تشريعٌ اجتماعيّ في القديم ولا في الحديث" (النُّظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها، 1978).

ولعلّ هذا السبب الأخير، هو الذي دفع الباحثة الكويتيّة الدكتورة سهام عبد الوهّاب الفريح، المُدافعة بقوّة عن قضايا المرأة، إلى تأليف كِتابها "المرأة العربيّة والإبداع الشعريّ"، لإماطة اللّثام عن مجمل الحقائق التي تُبرِّئ الحضارة العربيّة الإسلاميّة من إقصاء المرأة واضطّهادها، وإلغاء دَورها الفعّال في مجالات الحياة الإنسانيّة كافّة، وبخاصّة في مجال الأدب. وتذهب الباحثة أبعد من ذلك حين تؤيّد الفكرة التي تقول إنّ المرأة في المُجتمعات العربيّة القديمة كانت أحسن حالاً ممّا هي كانت عليه في مُجتمعات الفُرس أو الرومان أو اليونان. ويُعزِّز هذا الرأي ما ذهبت إليه الباحثة ليلى أحمد في أنّ معظم الإجراءات القهريّة ضدّ المرأة مصدرها العصر الجاهلي، ثمّ الشعوب التي دخلت الإسلام لاحقاً مثل الفُرس والرومان. فقد كانت هذه الشعوب تضع قيوداً عديدة على حياة النساء وتحدّ من قدرتهنّ وتحقِّر من شخصيّاتهنّ، بل إنّها كانت أوّل مُجتمعات تؤسِّس لعزْل المرأة عن الحياة العامّة واحتجازها في المنزل، بخاصّة المُجتمع الإغريقي القديم في أثينا قبل الميلاد (ليلى أحمد، المرأة والجنوسة في الإسلام، ترجمة: منى إبراهيم وهالة كمال، 1999).

وحتّى لا يبقى حديثها عن إسهام المرأة العربيّة في الإبداع الشعري خطاباً نظريّاً يتّسم بالعموميّة، ويتأرجح ما بين نظرتَين مُتعارضتَين إحداهما تُمجِّد وضعيّة المرأة، والثانية تُجرِّدها من كلّ صفة إيجابيّة، سلكت الدكتورة الفريح، بخلفيّتها الأكاديميّة، مَسلكاً تطبيقيّاً، قامت من خلاله بتنقيبٍ متأنٍّ وشامل في التراث الأدبي العربي، بحثاً عن الأصوات النسائيّة التي تركت بصماتٍ خالدة في الإبداع الشعري. ولم يكُن هذا العمل سهلاً على الإطلاق، ليس بسبب سعة المدوّنة الأدبيّة التي تمتدّ من العصر الجاهلي حتّى الآن فقط، وإنّما أيضاً بسبب قلّة الإشارات إلى الشعر النسائي، وتوافُر الموجود منها بصورة مُقتضَبة ومُتفرّقة لا رابط بين مصادرها المُختلفة.

شاعرات

ولم يكُن تناولها لمكانة المرأة في المُجتمع العربي القديم، والتحوّلات الإيجابيّة التي طرأت عليها بعد ظهور الإسلام، وهو ما يُشكِّل محور الفصل الأوّل، إلّا تمهيداً للموضوع الأساس الذي يتمثّل في التأريخ لإسهام المرأة في الإبداع الشعري، واستحضار أخبار بعض النساء الشاعرات مثل أمّ الضحاك المحاربيّة، وفاطمة بنت عمرو، وجمعة بنت الخسّ، وأمّ موسى الكلابيّة، وزينب أم حسّان الطيبة، ووجيهة بنت أوس الضبية، وليلى بنت لكيز بن ربيعة المُلقَّبة بالعفيفة، وعبلة بنت خالد التميميّة، وكلهنّ ينتمين إلى العصر الجاهلي. ومع ظهور الإسلام، وما تلاه من عصور (العصر الإسلامي والأموي) ستبرز أسماء شاعرات أمثال هند بنت عتبة بن ربيعة، وصفيّة بنت مُسافِر بن أبي عمرو بن أميّة، وهند بنت أُثاثَة بن عبَّاد بن المطّلب، وقتيلة بنت الحارث، وأروى بنت الحارث، وليلى الأخيليّة الذائعة الصيت في العصر الأموي. كما كان للمرأة نصيبٌ في الشعر السياسي الذي يعكس بوضوح الصراع الدائر بين أنصار الفِرق المُتنازِعة، ويُبيِّن أنّها لم تكُن بمعزل عن الحياة السياسيّة، بل كان لها أحياناً دور في توجيه الأحداث.

وبحلول العصر العبّاسي، ستحظى المرأة بقسط وافر من الحرّيات الفكريّة والثقافيّة، وأصبح لبعضهنّ، بما في ذلك الجواري، تأثير في السلطة من داخل البلاط العبّاسي. وتروي كُتب التاريخ أخبارهنّ مثل الخيزران أمّ الهادي، وبوران زوجة المأمون، وزبيدة زوجة الرشيد، وعليّة بنت المهدي. وبرزت بعض الأسماء في مجال الشعر أمثال ليلى بنت طريف الشيبانيّة، وخديجة العبّاسيّة، وعائشة بنت الخليفة المُعتصم محمّد بن هارون الرشيد، وعاتكة المخزوميّة، وشهدة بنت الإبري. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ مكانة المرأة الحرّة في هذا العصر تراجعت، وقد خفتَ صوت النساء الشواعر نتيجة مجموعة من المتغيّرات التي طرأت على المُجتمع، حيث كثرت الجواري وامتلأت بهنّ قصور الخلفاء والأمراء والأغنياء حتّى فضَّلهنّ الرجال على الحرّات نظراً لتفوُّق الجارية على الحرّة في الإبداع، إلى جانب الثقافة الرفيعة التي حظيت بها الجارية في مقابل الحرّة.

أمّا في الأندلس الإسلاميّة، فقد كانت المرأة أكثر جرأة لامتلاكها مساحة أكبر من الحريّة التي لم تكُن مُتاحة بالمقدار نفسه لأختها المشرقيّة، وطغيان الجواري على حضورها في الحياة العامّة. وكان يربو عدد الشاعرات هناك، بحسب بعض الإحصائيّات، على ستّين ألف شاعرة. ويشير فاضل فتحي والي إلى أنّ "تجربة الإبداع النسويّ في الأندلس تجربة فريدة من نوعها، حيث أَسهمت الأنثى إسهاماً لا يخفى على أحد في مجال الأدب، شعراً ونثراً، وكان العطاء الأنثوي عطاءً وفيراً لا يقلّ عن عطاء الرجال في بيئة كاد كلّ مَن يعيش فيها أن يقول الشعر، وأن يتعاطى الأدب... وقد فاقت التجربة النسويّة الإبداعيّة في الأندلس قرينتها في المشرق كمّاً وكيفاً، فشِعْر شاعرات المشرق قليل الكمّ إذا قيس بشعر شاعرات الأندلس، كما أنّ شاعرات الأندلس مارسْنَ التجربة، تجربة تامّة حُرِم منها شاعرات المشرق" ("الأنثى والحرف"، موقع إلكتروني). كما يؤكّد د. مصطفى الشكعة حضور المرأة الأندلسيّة في ساحة الأدب فيقول: "فقد كانت بعض المتأدّبات يتردَّدن على منتديات الرجال الأدبيّة. كما كان لبعض النساء أيضاً منتديات أدبيّة يؤمّها الرجال والنساء على حدّ سواء. ولعلّ ندوة ولّادة بنت المُستكفي تُعتبر مثالاً لهذا اللّون من النشاط النسائي وتحرُّك المرأة في الأندلس" (الأدب الأندلسي، موضوعاته وفنونه، 1983). ومن شاعرات الأندلس ثمّة قسمونة بنت إسماعيل اليهوديّة، وحفصة الغرناطيّة، وولّادة بنت المُستكفي، وحمده الوادي آشيّة، وخديجة المعافريّة، ونزهون الغرناطيّة.

المرأة في الخليج والجزيرة العربيّة

وبما أنّ الباحثة د. سهام عبد الوهّاب الفريح اعتمدت في كتابها المنهج التاريخي، كان لا بدّ لها أن تُقدِّم لنا صورة واضحة عن أدب المرأة في العصور الموالية، وذلك لنقف على أهمّ التحوّلات التي عرفتها وضعيّة المرأة، وانعكاسها المباشر على الشعر النسائي. لقد سبقت الإشارة إلى أنّ المُجتمع العبّاسي ضيَّق الخناق على المرأة الحرّة فحُجبت داخل البيت، ما أدّى إلى تهميش دَورها وغيابها عن مجالات الحياة، ومن ضمنها الإبداع الأدبي، بخاصة بعد استفحال أمر الجواري. وسيزداد الأمر سوءاً في العصور اللّاحقة، عصور الدويلات والطوائف والإمارات، حيث صارت المرأة ملك يمين الرجل مثلما هو الحال في الدولة الفاطميّة. وسيظلّ وضع المرأة على هذا المنوال إلى أن وصل إلى غايته القصوى في العصر العثماني، إذ دخلت المرأة الحرملك، وفَقدت مجمل حقوقها، وأصبحت وسيلة لإشباع النزوات وأداةً للإنجاب.

مع حلول عصر النهضة في بداية القرن التاسع عشر، ستُحاول المرأة العربيّة التحرُّر من القيود التي فرضت عليها خلال الحُكم العثمانيّ، غير أنّها ستُواجه مُقاوَمة عنيفة من المُجتمع الرّازح تحت سلطة التقاليد والأعراف التي لا تمتّ إلى تعاليم الإسلام بصلة.

ومن نتائج هذه الدعوة إلى تحرير المرأة، ظهور بعض الشاعرات في مصر والشام والعراق مثل وردة اليازجي، وزينب فوّاز، وعائشة التيموريّة، وأمينة محمّد نجيب. غير أنّ أشهرهنّ على الإطلاق الأديبة ميّ زيادة التي اقترن اسمها بعقْد صالون أدبي كلّ يوم ثلاثاء، ونازك الملائكة التي يعود إليها الفضل في ابتكار الشعر الحرّ، وفدوى طوقان التي ارتبطت تجربتها الشعريّة بالقضيّة الفلسطينيّة، ولميعة عبّاس عمارة التي تميّزت بجرأتها في التعبير عن عواطفها في الحب، متخطّيةً بذلك الحواجز التقليديّة. ونظراً لقيمة هؤلاء الشاعرات على المستوى الفنّي، فقد أولتهنّ د. سهام اهتماماً خاصّاً تمثَّل في التعريف بمَسارهنّ الأدبي، وبتحليلٍ دقيق لنَماذج مُختارة من أشعارهنّ، مع تحديد الخصائص الفنيّة والجماليّة لإنتاجهنّ الشعري.

أمّا المرأة في الخليج والجزيرة العربيّة، فلم تكُن بمعزل عن التحوّلات المتلاحقة التي طرأت على وضعيّتها في باقي المُجتمعات العربيّة الأخرى، ولاسيّما منذ بداية خمسينيّات القرن الماضي. وكانت الكويت من أوائل هذه الدول التي نالت فيها المرأة قسطاً موفوراً من التعليم، والحقّ في العمل. غير أنّ المرأة ظلّت أسيرة هَيمنة المُجتمع التقليدي، ما يُفسِّر عدم تمكُّن المرأة الخليجيّة من خَوض غمار القضايا التي عالجتها المرأة الشاعرة في باقي البلدان العربيّة.

ولتقريب صورة الشاعرات الخليجيّات إلى المتلقّي العربي، الذي قد يكون اطّلاعه على الأدب الخليجي محدوداً، ارتأت الباحثة د. سهام عبد الوهّاب الفريح أن تُعرِّفه بنماذج معيّنة. ومن هذه النماذج الشاعرات مريم البغدادي وسعاد الصباح وسعديّة مفرح. وقد حظيت كلّ واحدة منهنّ بتحليلٍ مُستفيض لمَسارها الشعري، والقضايا التي استأثرت باهتمامها.

جملة القول، إنّ كِتاب "المرأة العربيّة والإبداع الشعري" للباحثة د. سهام عبد الوهّاب الفريح يُعدّ مرجعاً أساسيّاً للباحثين في قضايا المرأة والأدب النسائي، نظراً لما يتّسم به من جدّة في الموضوع، ووفرة في المعلومات، ودقّة في التحليل، وسلاسة في التعبير. هذا فضلاً عن دحضه، بطريقة علميّة، بعض الأفكار الشائعة التي تحبس شعر المرأة في شرنقة الذّات، وتتّهمها بالوقوف عند الرثاء والبكاء. لكنّ الباحثة، وعلى الرّغم من أهمّيّة عملها، لم تُبرِز دَور المرأة المغاربيّة في الإبداع الشعري النسائي المغاربي، وهي التي كان لها الفضل في تأسيس أوّل جامعة في العالَم، جامعة القرويّين، التي كانت محجّةَ الباحثين من بقاع العالَم المُختلفة.

0 تعليقات

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم