10 أيام فى رحاب النبى.. مع بودشيشية المغرب

بقلم: مصطفى ياسين

عشت طوال عشرة أيام، فى شهر الفرح والسرور بمولد سيد الأنام، رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فى كنف ورفقة مجموعة من صوفية العالم مختلفى الجنسيات واللغات والأعراق، فى ضيافة وتلبية دعوة د. منير القادرى، نائب الطريقة القادرية البودشيشية. رئيس مؤسّسة المُلْتَقَى، والمركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم، بمقر مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية فى زاويتها العامرة بـ"مداغ، ناحية بركان المغربية، لحضور مؤتمرها الـ 19 والذى يعقد تحت الرعاية الساميّة لجلالة الملك محمد السادس- حفظه الله- ورئاسة العارف بالله د. جمال الدين القادري بودشيش، وكان بعنوان "التصوف ومآل القيم في زمن الذكاء الاصطناعي"، نظمته بشراكة مع مؤسّسة الجمال، بمشاركة أكثر من ٥٠٠ عالم وصوفى من مختلف الجنسيات واللغات والأعراق، إحياء لذكرى المولد النبوى الشريف، بحضور حوالى نصف مليون مريد ومحب مغربى فى الليلة الختامية التى استمرت حتى فجر الثلاثاء.

وخلال جلسات الملتقى طالب علماء الدين ورجال الصوفية وخبراء القانون بضرورة امتلاك المسلمين لأدوات ووسائل التقنية الحديثة، باعتبار ذلك واجب العصر، ليس لنشر الدين وتوعية المسلمين فحسب، بل حماية للإنسانية جمعاء من مخاطر الاستغلال السيئ لها، مؤكدين أن الوسائل التكنولوجية الحديثة إذا تركت بلا ضوابط قيمية وأخلاقية أصبح ضررها أكثر من نفعها، مستشهدين بوقائع التاريخ الإنساني، فحين كان المسلمون أصحاب السبق والريادة العلمية، أفادوا البشرية وخدموها، وحينما تحول الأمر لغيرهم دمروها بالأسلحة النووية والفتاكة.

وحذروا من أن التقدم العلمي بلا أخلاق تضبطه، وقيم توجهه، يتحول إلى معول هدم ودمار للكون كله.

وانعكست الحالة الروحانية التى يعيشها المشاركون فى الملتقى على سلوكهم العفوى، فكانوا يرددون المدائح والصلوات على الرسول فى ذهابهم وإيابهم، بل يتبارزون بالمديح كما حدث بين فضيلة د. عبدالمالك الخطيب، د. منير القادرى، فى وصلة مديح وإنشاد ويشاركهما كبير منشدى الإذاعة والتلفزيون المصرى، الشيخ محمد علي جابين، مع فرقة الجمال البودشيشية للمديح، والفرق الاندونيسية والماليزية والكورية، ويلتف حولهم المحبون مرددين خلفهم "الله الله يا رسول الله".

وكان لى شرف إلقاء كلمة فى هذا المحفل الدولى الشريف، بمكانه وزمانه وحضوره، بعنوان "وسائل الإعلام فى عصر الذكاء الاصطناعي.. الإعلام الدينى والصوفى أنموذجا"، قلت فيها بعد بسم الله الرحمن الرحيم:

أذكر نفسى بقول الله تعالى، على لسان سيدنا موسى، عليه السلام، فى سورة طه: "قال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)".

فمن أرض الكنانة، مصر المحروسة برعاية الله وحفظه، وإكرامها باحتضان العديد من أفراد آل البيت الكرام، عليهم السلام، والتابعين وتابعيهم وأولياء الله الصالحين، 

حتى صرنا نعتز بما نسميه البقيع الثانى، فى منطقة البهنسا، بمحافظة المنيا، والذى يضم أجساد أكثر من ٤٠٠ صحابى وتابع. وكذا إنجاب أبنائها المخلصين فى كل وقت وحين.

إلى المملكة المغربية الحبيبة، أرض الأولياء والصالحين، منذ إكرامها بنور الإسلام وحتى اليوم، فى ذرية صالحة بعضها من بعض، فى كنف جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله.

وإذا كان شرف التاريخ يجمع بين البلدين الأكرمين، موقعاً جغرافيا، وعقيدة إسلامية، ولغة عربية، ونسبا وانتسابا لآل البيت الكرام، فاختار أبناء سيدنا الإمام الحسن، عليه السلام، مغرب الأولياء موطنا، واختار أبناء عمومتهم من سيدنا الحسين، عليه السلام، مصر المحروسة مستقراً ومقاما.

فإن شرف الزمان، بذكرى ميلاد سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، يجمعنا على المحبة والوداد، كل عام، إن شاء الله، فى "شهر الفرح برسول الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم" تحت الرعاية الساميّة لجلالة الملك محمد السادس- حفظه الله- فى الملتقى العالمي للتصوّف، والذى بلغ أشده، وصار فى ريعان شبابه وقوته، بوصوله لنسخته التاسعة عشر، والذى اختير له هذا العام عنوان "التصوف ومآل القيم في زمن الذكاء الاصطناعي"، لتؤكد لنا "القادرية البودشيشية" مواكبتها لكل مستجدات العصر، باعتبارها أنموذج للصوفية الحقة التى لا تتخلف ولا تنعزل عن محيطها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وأيضا التقنى، كما يقول د. منير القادرى: "الصوفى ابن عصره".

وانطلاقا من هذا المفهوم، وذلك التفاعل والتماهى مع جوهر ومقصد الملتقى، شرفني الحديث عن "وسائل الإعلام فى عصر الذكاء الاصطناعي.. الإعلام الدينى والصوفى أنموذجا"، فقلت وبالله التوفيق: لقد شهدت، ومازالت تشهد وسائل الإعلام المختلفة، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المتعددة والمتنوعة، تطورات وطفرات متلاحقة ومتسارعة جدا، لدرجة أن المتابع لها لا يكاد يستوعب أو يتعرف على خطوات إحدى مراحلها حتى يفاجأ بتطورها أو ظهور أحدث منها، ما يجعله في حالة من الإجهاد و"اللهث" المستمر وراء كل جديد أو مواكبة التطورات!

وتجاوزت وسائل الإعلام تلك، كل الحدود والقيود، الجغرافية منها والسياسية بل حتى القيمية والدينية، وصار البعض، إن لم يكن الأغلب، أسيراً لها، سواء كان مستخدماً لها تحت تأثير التريند أو المشاهدات واللايكات، وما ينتظره من شهرة أو مكسب مادى أو حتى معنوى!

أو مجنيا عليه بسببها، مكتويا بلهيبها من شائعات وافتراءات وأكاذيب!

وفي الحالتين صار إنسان هذا العصر هو الجانى والمجنى عليه، فى آن واحد، وكما يقول المثل "بيده لا بيد عمرو"! فهو يصنع العفريت الذى يظل يطارده ولا يستطيع له صرفا ولا تحويلا!

غير أن تقنية الذكاء الاصطناعي تجاوزت هذه المراحل والتخوفات بكثير، وصارت تصنع واقعاً جديداً، بل هى تخلقه من عدم! وغالباً ما يكون مخالفاً للحقيقة والواقع، بل يختلق ما لم يكن بالأساس، لتحقيق مكاسب أو إضاعة حقوق، بغير حق!

وشئنا أم أبينا، صار للأسف الشديد، هذا هو الواقع، الذى يجب التعامل معه، أيا كانت الظروف والتداعيات، وإلا تجاوزنا العصر، بل "دهسنا" فى طريق انطلاقه!

إذن، فالمطلوب منا الآن هو، كيف نتعامل مع هذا المخلوق أو المخترع الجديد؟ وكيف نستثمره لخدمة ديننا الحنيف؟ ونفع الإنسانية جمعاء، مسلمين وغيرهم.

وفيما يتعلق بمجال تخصصى، الصحافة والإعلام، وتحديداً الصحافة الدينية وبالأخص الصوفية، أشير إلى أن الصحافة والإعلام الدينى عامة، يلتزم عددا من المعايير والقيم الأخلاقية، والتى اعتقد انها تقى المجتمع، مخاطر الذكاء الاصطناعي أو كما أطلق عليه أنا "الغباء الاصطناعي"، لأنه يلغى العقل البشري ويحوله إلى مجرد، ناسخ ولاصق، "copy, past"، فيقضي على الإبداع والابتكار، ويجعله تابعا وأسيرا لما يقدمه الآخرون، أو ما يريدون تقديمه لنا، بما يحمله من أفكار وقيم ومناهج، غالباً ما تكون مخالفة لقيمنا ومبادئنا، لأن من يغذون هذه الآلة مغايرون لنا.. وللأسف الشديد نحن لما نصل بعد إلى امتلاكها والسيطرة عليها، لتغذيتها بما يتفق ومبادئ وقيم ديننا ومجتمعاتنا.

ومن هنا، اتمنى على مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية، كما أنها تواكب العصر، أن يكون لها قصب السبق، وتأخذ بزمام المبادرة، وتتبنى اقتحام مجال الذكاء الاصطناعي، بما تملكه من قدرات مادية وعلمية، وكوادر مؤهلة، تعضدها الرؤية الثاقبة والمستقبلية لقادتها، ممثلة فى مرجعية شيخنا الجليل سيدى جمال، واستشراف المستقبل بنظرة سيدى منير، لتكون أول طريقة صوفية تسبر أغوار هذا المجال المهم جداً.

وأعتقد أن هذا هو واجب الوقت بالنسبة للبودشيشية المعاصرة.

تلك المعايير والقيم التي يلتزمها الإعلام الدينى، هى ذاتها التي ينبغي التزامها فى التعامل مع تقنية الذكاء الاصطناعي، وتغذيته بالمعلومات والبيانات.

وأهمها:

- إلتزام الموضوعية وتحرى الحقيقة، بالاعتماد على المصادر الموثوقة، وليست المجهلة أو الجرى خلف التريندات والمشاهدات واللايكات.

- التحلى بالقيم والمبادئ الدينية والأخلاق والآداب العامة، فى الموضوعات المراد ترويجها ونشرها.

- تربية وإعداد وتأهيل الكوادر العاملة فى هذا المجال التقنى، وتحصينهم دينيا وروحيا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

- اختيار الموضوعات والبيانات المفيدة لصالح العباد والبلاد، وليست توافه الأمور.

- تعاون المؤسسات 

- وأخيرا، إصدار القوانين والتشريعات التي تعاقب وتردع المخالفين والمعتدين باستخدامهم تلك التقنيات فى الاعتداء على الآخرين.




0 تعليقات

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم