المغرب الثقافي.. الثقافة تؤسس للسياسة

بقلم: د. أحمد عبدالحليم عطية، عضو الجمعية الفلسفية المصرية

هناك صفات متعددة يتصف بها رجل السياسة، خاصة السياسة الخارجية، صفات الدبلوماسى الذى يعد الصورة الأرقى التي يمكن أن تقدمها اى دولة في تعاملها مع غيرها من الدول، فهو الأكثر تعبيراً عن دولته: تاريخها وسیاستها، إنجازاتها وغاياتها. وهو الأقدر على فهم الأحوال الدولية وتأثيرها في القضايا التي تهم العالم وتؤثر على العلاقات بين بلده والبلد الذي أرسل سفيرا إليه، وهو يتصف بالفهم التاريخي والنظريات السياسية وحينما يضاف إلى ذلك الفكر والفلسفة يكون مثالاً لما حدثنا عنه أفلاطون حول السياسي الفيلسوف.

ومن حسن الطالع أن يكون العديد ممن عملوا سفراء للمغرب الشقيق في مصر من المثقفين المفكرين الفلاسفة، الذين تفخر بهم الثقافة العربية بمعناها الأوسع والفكر العربي المعاصر بمعناه الدقيق.

فقد عاش بيننا المفكر المغربي الكبير عبدالله العروي في الستينيات، مستشاراً تفاقياً فترة التحرر والاستقلال العربي، وفي مصر أنجز عمله المهم "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، وكثير من المثقفين يذكرون أعماله المتعددة حول مفهوم الحرية ومفهوم الدولة ومفهوم التاريخ، وهي الكتب التي تؤسس للثقافة والفكر العربي المعاصر.

وهناك أيضاً المفكر المغربي صاحب "الخطاب التاريخي" والدولة الوطنية والإصلاحية العربية وغيرها "على أو مليل" الذي درس فى مصر بداية الستينيات، في صحبة كثير من اساتذتنا وعين سفيرًا في مصر للمغرب منذ حوالى عقدين من الزمان، وكان له حضوره الكبير فى مصر بين الساسة والمثقفين. 

وهذا الأمر هو ما يحدث الآن مع السفير المغربي الجديد حميد وايت علي، الذي كان بيننا منذ ثلاثة عقود والتحق بقسم الفلسفة جامعة القاهرة ليعد أطروحته الأكاديمية حول "السياسة عند الغزالي"، وكان ذلك مع أستاذنا الدكتور يحيى هويدى وزميلتنا الدكتورة زينب الخضيري.

 تجربة علمية إنسانية عشتها في هذه الفترة، وهي تجربة تؤكد مع ما سبق أن ذكرته عن عمق العلاقات الثقافية والأخوية بين مصر والمغرب، تجربة لم تتح لى الفرصة من قبل للحديث عنها.

وقد زرت المغرب مرارًا، وجاء الصديق والزميل السفير الحالي إلى مصر من قبل منتشراً ثقافياً، ومن هنا ونظراً لأهمية هذه التجربة في بيان دور الثقافة والفكر والفلسفة في العلاقات بين الأمم والشعوب ذات العمق التاريخي والثقافى.

أتوقف في هذا المقال للحديث عنها ربما تفيد في رؤية إشكاليات الواقع العربى الحالي وفي التأكيد على ما يمكن أن يسهم به الفكر والثقافة فى تأسيس أعمق للعلاقات السياسية استرشاداً بقول زكي نجيب محمود "العروبة ثقافة".

كان سعادة السفير حين كان طالبًا، دائم التواجد في مصر أثناء دراسته، علي العكس من العديد من الطلاب العرب الذين يدرسون بالقاهرة، كان كثير الحضور إلى قسم الفلسفة، يدرس ويناقش، يتحدث كثيراً جداً عن الفلسفة في المغرب، والتي كانت مزدهرة للغاية في هذا الحين وحتى الآن، يحدثنا عن تيارات الفلسفة وأعلامها فى المغرب، من نعرفهم وكذلك الجيل الجديد في الجامعات المغربية، كان يستحضر كتبهم الجديدة التي يصعب تواجدها في القاهرة، يقدمها للباحثين فى مصر، لا يكف عن الحديث عن الفلسفة فى المغرب بتعمق واعتزاز ممن يجتمع حوله كل من يريد ان يستزيد.

وكنت بدورى أحدثه عن الفلسفة في مصر وبداياتها وأعلامها. والحقيقة أن هناك مهمة كانت مصدر للاهتمام المشترك بيننا تتعلق بدور عدد من الأساتذة المصريين ممن قاموا بالتدريس فى المغرب، أشير إلى عدد منهم لبيان أهمية هؤلاء الأساتذة بالنسبة للأجيال الأولى من فلاسفة المغرب، والأهم هو عناية الأساتذة فى المغرب بالاحتفاء بهم وبأعمالهم، ربما أكثر مما فعل الأساتذة فى مصر وهم على التوالي: على سامى النشار ونجيب بلدى وحسن حنفى، ونحن لا نزال نتذكر العمل المشترك "حوار المشرق والمغرب" بين حسن حنفى ومحمد عابد الجابري، كما نتذكر الكتاب التذكاري الذي أصدره أساتذة المغرب عن أستاذهم الفيلسوف، الذي للأسف لا نذكره في مصر رغم حضوره الفلسفي الكبير وهو نجيب بلدى: لم نتذكره نحن واحتفى به في المغرب الاحتفاء اللائق به!

ذكرت ما كان يقوم به حينها في زمن دراسته بالجامعة الأم في مصر -سفير المغرب الحالي- وهو عمل ليس رسميًا بل مهمة ثقافية فكرية إبان إعداده للحصول على اطروحته للماجستير، حيث قام بدور السفير الثقافي والفكري للفلسفة المغربية، لكن هذه المهمة تمثل في الحقيقة نصف الجهد الذي قام به، يكتمل هذا الجهد بالتجربة التي عشتها بنفسي فى زيارتى للمغرب والتقائي به، ووجدت الدور الذي يقوم به للثقافة والفلسفة في مصر بين الأساتذة في المغرب يحدثهم عن جهود المفكرين والمنظرين في مصر وكتاباتهم وأهم ما يطرحونه من آراء وأنا أصغى إليه باهتمام متذكرًا حديثه المستمر في القاهرة عن الفلسفة فى المغرب، الذى يقابله حديثه المستمر في المغرب عن الفلسفة في مصر وكأنه يجسد الجهود الثقافية المصرية وهو ما كان يدرکه جيداً كما فيما أكد عليه حين التفت إلى والابتسامة تعلو وجهي ويقول: "حين أكون فى مصر أتحدث عن المغرب، وأنا ها هنا بالمغرب أتحدث دائماً عن مصر"، كان يزرع أو يرعى بذور التعاون الثقافي العربي منذ نهاية الثمانينيات سفيراً للثقافة والفكر العربي.

أكدت وعمقت اللقاءات والحوارات الدائمة في مصر والمغرب مع سفير المغرب الدبلوماسى الثقافى، معرفتى بأجيال متعددة من الفلاسفة والأساتذة المغاربة مثل الدكتور بنشريفة رئيس الخزانة الحسينية، والدكتور محمد عزيز الحبابي عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورائد الفلسفة في المغرب، الذى شارك كل من المصرى محمود قاسم عمید دار العلوم، والسوري بديع الكسم استاذ الفلسفة بجامعة دمشق، في تعريب الفلسفة في الجزائر فترة الستينيات بعد الاستقلال فى الجامعات الجزائرية تأكيداً لعروبتها. تعرفت على الحبابي منذ 1975 مثلما تعرفت على كل من محمد عابد الجابري حيث يأتي إلى مصر ويلتقى صنوه حسن حنفي فى القاهرة ونجلس معاً في حديقة غرناطة في مصر الجديدة، مثلما التقيت في مصر مع طه عبدالرحمن، الوجه الأكثر حضوراً اليوم، والذى ما زلت أحتفظ بكتبه الأولى التى وصلتني من المغرب وجاء طه عبدالرحمن إلى قسم الفلسفة بآداب القاهرة، استمعنا إليه وتحاورنا معه وتكررت لقاءاتنا به في السودان والأردن في العديد من الملتقيات الفلسفية بالنسبة للجيل الحاضر في الفلسفة المغربية من تلاميذ الحبابي التقيت مجموعة ممن حضروا لقاء الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية التي أسسها مراد وهبة، وكان اللقاء الأول بمبنى جامعة الدول العربية وحضره "أير" الفيلسوف الإنجليزي الكبير والذي كان الحبابي نداً له في العديد من المواقف. وعائلا منذ الحياى لتكريمه وترشيحه لجائزة نوبل، وشاركت فى ذلك بدراسة كان يعتز بها عنوانها "الكوجيتو الإبداعي عند الحبابي". كان هؤلاء الذين حضروا معه وهم الآن أساتذة الأساتذة فى المغرب؛ على ما أذكر: كمال عبداللطيف ومحمد وقيدي ومحمد المصباحى وعبدالسلام بنعبد العالي، وارجو المعذرة في الذاكرة، فهناك نصف قرن على هذا اللقاء تعددت لقاءاتنا مع هذا الجيل فى المغرب والقاهرة وعمان وبيروت، يضاف إليهم عدد من الوجوه البارزة اليوم فى العالم العربي وخارجه مثل: إسماعيل المصدق ومحمد الأشهب ونذكر ايضاً ممن تواصلنا معهم مثل يوسف بن عدی. والحقيقة أن الدور الذى يقوم به أهل الفلسفة في المغرب ومثقفوه دور مهم للغاية في الحوار والتواصل ليس فقط داخل الحضارة والفكر الفلسفي الغربي المعاصر مثلما نجد لدى الكثيرين، خاصة نور الدين أفايه وفريد الزاهي، بل التواصل مع الثقافات المتنوعة داخل الحضارة الإسلامية كما يظهر بصورة واضحة لدى محمد المصباحي هذا التواصل والحوار والسعى إلى خطاب فلسفى عربى جديد هو ما دفعني إلى الحديث عن المغرب الثقافى، وهو حديث يطرح علينا سؤالا "آن أوانه". هو دور الثقافة والفكر في تحديد توجهات الحاضر العربى، الذى يمر بالكثير من الأزمات لغياب رؤية شاملة للأمة العربية ودورها في العالم المعاصر ونهوضها بالدور الذي يتفق وحضورها التاريخي، وهي رؤية تقوم في جوهرها على الفلسفة، وهى الرؤية المتوارية فى الدوائر الثلاثة أو المهمش فى المثلث الذى يضم الدين الذي يمثل العمق التاريخي والحضاري، والسياسة التي تمثل الحضور في العلاقات الدولية وما يحكمها من موازين القوي ويظل الفكر وما يحمله من رؤي مستقبلية هو هذا الضلع الثالث الذي يقدم لنا خطابًا فلسفيًا يؤازر ويساعد خطاباتنا الدينية والسياسية، وهي ما نقصده بكون العروبة ثقافة، تلك الدعوة التي تأكدت لدى ولدى عدد من المثقفين العرب وفي مقدمتهم الأساتذة في المغرب، وصار التأكيد أكثر إلحاحاً بعد حصار غزة وإبادة أهلها، حيث نهض هؤلاء بعدما قام كبير فلاسفة الغرب اليوم يورجين هابرماس بإصدار ما اسماه "بيان التضامن" الذي يؤيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها دون أية إشارة لما يلاقيه أهل غزة من قتل وإبادة وطرد وتشريد فاندفع مجموعة من أساتذة المغرب كانوا تلاميذ مخلصين لفلسفة هابرماس، كتبوا عنه وترجموا أعماله، بجملة مهمة ليس فقط للرد على الفيلسوف اليهودي الألماني الذي تجاوز التسعين ونادي بأخلاق الحوار وأبعد الفلسطيني منه؛ بل لتأكيد أهمية حضور الفلسفة العربية المعاصرة لمناقشة قضايانا الوطنية وهو ما أدعو إليه للتحول "من صراع السيد والعبد إلى جدل الاعتراف المتبادل" وهي دعوة ليست لتأكيد ضرورة الانتقال من التلقى إلى اللقاء مع الغرب، بل أيضاً وفي الأساس للتلقى واللقاء مع أنفسنا في عالمنا العربي، وهو موضوع يحتاج إلى نقاش وحوار طويل خاصة فيما يتعلق بالعلاقات العربية العربية، بعضها مع بعض والتى تشترك في حدود مشتركة وما يمهد إلى ذلك هو الدور الذي يمكن ان تنهض به الفلسفة كما ظهرت في تلك التجربة المتميرة للسفير الذى توحدت فيه الدبلوماسية مع الفلسفة، معبرًا عن المغرب الثقافى مما يجعلنا نأمل في الدور الذي يمكن أن يقدمه الفكر والثقافة للأمة العربية.

0 تعليقات

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم