إن الكتابة عن الشاعر آباي ليست من قبيل الترف الفكري، بل إن البحث في تراثه ـ في هذا العصرـــ من باب الفرائض لا النوافل، ولهذا شَرع د. خالد السيد غانم، مدير الفتوى بوزارة الأوقاف، في هذا البحث الموسوم بـ(الإنسان في نظر آباي كونانباي).
قال: قد قمت بجمع أفكار الشاعر الحكيم آباي كونانباي عن الإنسان، وتبويبها، واخترت لكل مقطوعة عنوانًا، يعالج الفكرة التي من أجلها قمت بتدوين هذا الكتاب، وفي ختام كل جانب إنساني، قمتُ بشرحه والتعليق عليه تحت عنوان (تحليل وتبيان)، وذلك بمعالجات متنوعة، وأساليب متعددة، مثل: الأسلوب الأدبي، والعلمي، والاجتماعي، والديني.
وكوْن أن هذا الموضوع يتعلق بجانب السلوك، والاتجاه الحياتي والإنساني فأهميته ملحوظة، وآثار تطبيقه لا شك معروفة، وذلك لمن يريد أن يرسم صورة لمجتمع مشرق، يتمتع بالسلوك النبيل، ويحظى بالعمل القويم، ويجد لنفسه مكانًا سامقًا في الصفوف الأولى للرقي والحضارة.
والمُطالع للمكتوب يرى أننا نعايش أقواله آباي، ونقدم رؤية تحليلية ذات دراسات متنوعة، والغاية من هذا السرد تقديم صورة حقيقية للإنسان في عين آباي، والتغلب على بواعث الشر بداخل النفس البشرية، وتنمية الخير والمعروف، والذي عُرِف ـ فيما بعد ـ بعلوم التنمية البشرية والسعادة الإيجابية، ونقدم أنموذجًا للشخصية الكازاخية في التعامل مع النفس، والعلاقة مع الآخرين.
وبهذه التوطئة يمكننا تسْطير نبذة إجمالية عن موضوع الكتاب، وقد حفزني الشعور ـ بالرغبة الحثيثة لتدوين هذه الكلمات ـ بعد مخالطتي لتراث آباي من جديد، والذي أيقظ بهجة المعرفة بداخلي، وألهب مشاعر الحب نحو دراسة تراث شاعرنا الحكيم، وفجر الحب بجوانحي مجددًا لكازاخستان وللشعب الكازاخي، وأحيَا بداخلي مرة بعد أخرى الشوق للاطلاع على التراث الثقافي لكازاخستان.
بناء الإنسان
فقد اهتمت الأديان ببناء الإنسان في كثير من المجالات روحيًّا وسلوكيًّا وثقافيًّا ... وبرز المصلحون كلما جاد بهم الزمان وظهروا في المكان، مُقدِّمين ما يُصلح من شأن الإنسان، وما يرشده للسلوك الأقوم والطريق الأرشد.
دون مواربة نجد الاهتمام بالإنسان من البواعث الحثيثة نحو تقدم المجتمعات، ورقي الأوطان، وتنوع الحضارات، وكل إنسان له دور كبير في هذا الوجود، يسهم من خلاله في وعي المجتمع، وتشكيل الفكر.
وإذا كانت دول شرق آسيا محط أنظار المثقفين، وموطن الملهمين والمصلحين، في الزمان القديم، ومرورًا بحركة الفكر المستنير في التيارات التنويرية الحديثة؛ فإن كازاخستان من الدول التي تسابق الزمن في هذا المجال.
لقد نَعِمَتْ كازاخستان بكثير من المفكرين والعلماء الذي قدموا إسهامات بارعة، ورؤى فكرية وثقافية متنوعة .
ومن استقراء التاريخ نرى الإمام الفارابي، والإمام المروزي والإمام الفاريابي، والإمام السغناقي، والإمام الميرغناني، وأحمد اليسوي، والشاعر الحكيم آباي كونانباي، وغيرهم الكثير في التراث القديم، والفكر المعاصر.
ولعل العناية بالإنسان أحدُ أسرار اهتمام كازاخستان بأعمدة التراث القديم، والمُضي قُدما نحو حركة بعْث إحياء هذا التراث في الفترة الأخيرة ـ ولا تزال ـ وأن التنقيب عن تراث قدَّم إسهامات متنوعة في الحضارة اتجاه محمود وملحوظ، ويُعَدُّ هذا الاهتمام بمثابة إرهاصات اجتماعية جديدة نحو بناء الإنسان.
وقد قيل: "إن التغني بمفاخر الآباء محمودة إذا كانت سبيلا للبناء والنهوض، وليست مدعاة للركود والقعود"()، وقديما قال الشاعر:
مِنّا الّذِي اخْتِيرَ الرّجالَ سَماحَةً وَخَيراً إذا هَبّ الرّياحُ الزّعَازِعُ
وَمِنّا الّذي أعْطَى الرّسُولُ عَطِيّةً أُسارَى تَمِيمٍ، وَالعُيُونُ دَوَامِعُ
وَمِنّا الذي يُعطي المِئِينَ وَيَشترِي الـ ـغَوَالي، وَيَعْلُو فَضْلُهُ مَنْ يُدافعُ
وَمِنّا خَطِيبٌ لا يُعابُ، وَحامِلٌ أغَرُّ إذا التَفّتْ عَلَيهِ المَجَامِعُ
وَمِنّا الّذي أحْيَا الوَئِيدَ وَغالِبٌ وَعَمْروٌ وَمِنّا حاجِبٌ وَالأقارِعُ
وَمِنّا غَداةَ الرَّوْعِ فِتّيانُ غارَةٍ، إذا مَتعَتْ تحتَ الزِّجاجِ الأشاجعُ
وَمِنّا الّذي قادَ الجِيادَ عَلى الوَجَا لنَجْرَانَ حَتى صَبّحَتها النّزَائِعُ
أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ، إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ
التجربة الشعرية
وإذا كانت التجربة الشعرية هي إحدى بواعث ارتجال الشعر أو الحبكة النثرية، فإن الشاعر آباي كونانباي قد خاض في أعماق الجانب الإنساني؛ ليسرد لنا بعض أقاصيصه وأركانه، كي نستهدي بها في ضروب الحياة، ومعترك الدنيا.
لقد صدرت أقوال أباي من قلبِ مؤمنٍ متوجعٍ، وفكر توجس خيفةً على الانسان، يخشى دنيا الناس التي غمرها التكالب، واستشرى فيها التملق والنفاق، ويشرح في إخلاص بارز لضمير مستتر من الخوف والتوجس، وحُق لكازاخستان أن يكون شاعرنا آباي في قائمة الخالدين، وأحد أعلام الشعراء والحكماء.
عسي أن تكون هذه الكلمات هداية للمرتاب، وغاية للأحباب، وسبيلًا نستهدي به الخير والرشاد.
إرسال تعليق