"مطاريد الصوفية".. ثقوب سوداء فى ثياب التصوّف!


تحرُّش ونَصْب.. تحت رداء "الكرامة والولاية"
د. القصبى: الطُرُق تنقّى نفسها.. والردع للأدعياء
أبو العزائم: بُرآء من الدجل والشعوذة و"المُتَمَصْوِفَة"
الجازولى: طريقنا الحب فى الله.. بالعمل الصالح بعيداً عن العِلَل والأوهام
د. القادرى: منهجنا ربَّانى لتحقيق الحياة الإنسانية المتوازنة
د. مهنا: التصوّف سِرُّ الله لمن يحبّه.. عمل بالكتاب والسنّة
د. جانب: أدب مع الله بطاعته.. ومع النبى باتّباعه

مصطفى ياسين

شهدت الساحة الثقافية- والصوفية تحديدا- كثيرا من مظاهر الدجل والشعوذة التى أثارت الجدل وجدَّدت الاتهامات للتصوّف ورجاله، فى الوقت الذى يحتفل فيه المسلمون بذكرى المولد النبوى الشريف، وكأنّها حملة ممنهجة ومقصودة للتشويش وتشويه الاحتفال بالمولد النبوى.

فقد خرج علينا من يضع السيف على رقبته ويمُر عليه شيخه! أو مُدّعى النبوّة والكرامات من "مطاريد الصوفية"، وللأسف تُرتكب كثير من جرائم التحرُّش والنَصْب على العامة والبسطاء من محدودى الثقافة والعلم، ما أساء للتصوّف خاصة، وللدين عامّة!

ما دفع الصوفية، وعلى رأسهم المشيخة العامة للطُرُق الصوفية، برئاسة د. عبدالهادى القصبى- شيخ مشايخ الطُرُق الصوفية- لاستنكار ورفض تلك الادّعاءات ودحض وتفنيد الاتهامات.


فأكّد د. القصبى، أن التصوّف برئ من كلّ تلك المظاهر التى يرتكبها الأدعياء، وأن الطُرُق الصوفية تُنقّى نفسها بنفسها من خلال شيوخها ورجالها، باستبعاد الخارجين والمُدّعين، لكن يبقى على الجهات التنفيذية اتخاذ إجراءاتها القانونية الرادعة، والضرب بيد من حديد على الأدعياء، حتى يرتدع كل من تسوِّل له نفسه تشويه التصوّف والدين أو اتهامه بما ليس فيه.

جهاد النفس


يُعرَّف السيد علاء أبو العزائم- شيخ الطريقة العزمية، عضو المجلس الصوفى الأعلى، رئيس الاتحاد العالمى للطرق الصوفية- الصوفى بأنه من جاهد نفسه فى ذات الله بتوفيق الله حتى صفا قلبه ووقته وحاله، فصفَّاه الله تعالى، فسُمِّى صوفيًا، وقد تجمّل بهذا المذهب كثيرٌ من الصحابة فى عصر رسول الله، وهم أهل الصفة من أئمة الصحابة كأبى ذر، صهيب، سلمان، سعيد بن جزيمة، العبادلة، بلال، أبو رافع مولى رسول الله رضى الله عنهم أجمعين.

ورجال التصوّف فى كل عصر وزمان أئمة الهدى، وسُرُج الدلالة ومصابيح الظُلْمة، وهم أهل الله الذين فرغت قلوبُهم مما سواه، وهم الذين أمرهم رسول الله بأن يستفتوا قلوبهم لصفائها وإن أفتاهم المُفتون، ولكنهم قليل، وقد حلّ فيهم الدخيل من "المُتَمَصْوِفَة".

وعلم التصوّف يُعرف منه أحوال النفس فى الخير والشَّرِّ، وكيفية تنقيتها من عيوبها وآفاتها، وتطهّرها من الصفات المذمومة، والرذائل والنجاسات المعنوية التى وَرَد الشرع باجتنابها، والاتّصاف بالصفات المحمودة وهى الصفات التى طلب الشرع تحصيلها، وكيفية السلوك والسير إلى الله تعالى والفرار إليه.

ويهدف إلى النجاة فى الآخرة، والفوز برضا الله تعالى، ونيل سعادة الأبد. وجلال هذا العلم وشرفه وعظم قدره وبيان أن أهله هم الصفوة من بنى آدم بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

رسالة التصوف

ويشير السيد سالم الجازولي- شيخ الطريقة الجازولية، عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية- إلى أن رسالة التصوّف نابعة من روحانية الإسلام. فالطُرق الصوفية ما هى إلا مدارس كبرى تعلِّم وتُربِّي، تهذّب وتصفِّي لتجعل الفرد المسلم إنساناً نافعاً للجماعة الإسلامية ولدينه ولوطنه، لا عُقَد ولا أحقاد ولا قَبَلِيِّة. فالإسلام دين للناس جميعاً لا فرق بين إنسان وآخر. يسير على الفطرة الإنسانية السليمة ينير لها الطريق، ويهدينا إلى الحق. والطرق الصوفية أخذت من كتاب ربِّها وسنَّة نبيّها على هدى وبصيرة تحبّب وتؤلِّف، تجمع وتعرِّف، هادفة إلى التربية الصوفية الحقّة، بحيث يتحوّل الإنسان من عبادة المادة إلى عبادة الواحد القهار. ولا يعرف الإسلام ما يُسمَّى بالعمل المادي. فكل عمل من أعمال الدنيا يتّجه به الإنسان إلى الله أيًّا كان هذا العمل فهو عبادة الله، وبذلك تتّسم الحياة بالحبّ وأعمال الخير والأخلاق.

الجانب الروحي


أضاف الجازولي: لقد أطلق الإسلام الجانب الروحي فى كل حياة الإنسان فى عمله وفى عبادته. والتصوف هو الأريج المنبعث من الزهرة الإسلامية المتفتّحة اليانعة، لذا كان التصوّف هو الطريق إلى الإسلام، إلى الحب، إلى الله. وتصوف الجازولية روحي خالص يراقب الله فى كل شئ ويخشاه، فالتاجر فى متجره والصانع فى مصنعه والزارع فى حقله والطالب فى مدرسته كل يعمل فى موقعه وهو يعلم علم اليقين أن الله يسمعه ويراه كما يعلم أن الله هو الرازق وواهب الحياة.

وشدَّد "الجازولي" أن الصوفي الحق هو الذى لا يعرف الفُرقة والجدال والانقسام ولا يجرى خلف الأوهام. واستشهد بأن الصحابة- رضوان الله عليهم- كانوا لا يفرّقون بين عمل الدنيا وعمل الآخرة لأن كليهما قد انتظما فى سلك واحد. فالتصوف قوة عمل وعبادة وحب وإيمان وارتقاء بالحياة إلى أعلى وارتفاع بالقيم الإنسانية إلى ما هو أرفع وأسمى. والتصوّف وراء كل عمل خير يدفعه ويزيده. وقد لا يرى أعداء التصوف ما عليه الصوفية من قوة عاملة وملهِمة حيث قالوا إنه انطوائي قانع بالزهد والعبادة، لماذا؟ حتى على أسوأ الفروض أنه كذلك. لماذا نسخر من قوم أحبّوا خالقهم وتعبّدوه رحماء فيما بينهم؟! قوم أحبوا الله ملء قلوبهم ورأوا الوجود كلّه لحْنًا هاتفا داعيا بحب الله ومسبِّحاً!

الحب الإلهي

تابع "الجازولي" حديثه مؤكدا، إن الحب الإلهي كنز وثروة يغنى الإنسانية جمعاء ويسمو بها. ولقد حاولت أمم كثيرة أن تجعل الدين فى قوالب جامدة بعيدة عن الحسّ والروح، حاولوا أن يقيسوا الدين والعقائد بـ"البَرْجَل والمَسْطَرة". ونحن نعرف أن التاريخ شهد للصوفية بأنهم الأمان والحِمَى إذا تداركت الخطوب وتتابعت الأحداث، فيحتفظون بالشعوب سليمة نقية فى صفاء الماء ونقائه، فى حفظ الحِمى المقدّس حِمى الله.

ويؤكد "الجازولى" أن الجهل بالإسلام وروحه والإيمان وحبّه وحقائق الرسالة المحمّدية هو الذى جعل هؤلاء الناس يتجنّون على التصوّف. والعالم اليوم المتعب المكدود فى أمسِّ الحاجة إلى منقذ يهديه إلى الأمان والحب وإلى الله. ولا عاصم اليوم إلا الروحانية الإسلامية الخالصة، تلك الروح الهادية التى تنبع من كتاب الله الذى فيه خبر من قبلنا وحكم ما بيننا ونبأ ما بعدنا. ليس للجشع والطمع دواء غير الزهد ولا للكراهية والاستعلاء إلا الحب. فالروحانية الإسلامية قادرة على خلاص الإنسان من البربرية الجاهلة التى جُنَّت بالشهوات وتعبَّدت بالدماء، واقتاتت بالحقد. لقد كانت المحبّة هى رسالة التصوّف وستظل كذلك بإذن الله. إليها تُشَدُّ الرحال وعندها تُعقد الآمال. وأن رسالة التصوف تهدف إلى الوصول إلى معانى الحب الإلهي الذى يربط بين العبد وخالقه برباط الحب والولاء لله. هذا الحب الذى كان سببا فى التكوين الصوفى الخالص. هذا الحب الذى استمدت منه جميع المخلوقات وجودها.

 إن طريقتنا (الجازولية الحسينية الشاذلية) تدعو البشرية جمعاء إلى حب الله محبّة خالصة بعيدة عن العلل والأوهام، كما تدعو إلى العمل الصالح الذى ينفع الناس فى يومهم وغدهم. ولقد بدأ الحرص على متاع الدنيا يغزو نفوس جميع طبقات المجتمع الإسلامى لذلك تميز أهل الحب فى الله بزهدهم فى الدنيا عن جميع الطبقات الإسلامية التى غزا نفوسهم الحرص والطمع. ف الحب في الله لم يكن غريبا على المسلمين ولا بعيدا عن مسامعهم ففى كتاب الله الصورة الحقيقية عن هذا الحب. وحياة رسول الله صورة كاملة للحب الإلهي عندما يقول (إنى أبيت عند ربى يطعمني ويسقيني). وروحانية الإسلام مستمدة من هذه الصورة الطيبة الكريمة. إن المحبة هى الروح الفائض بالبقاء الذى يمنح الحركة للوجود، بها تزهو الزهور وتطيب الثمرات وتترابط الأمم والشعوب، فالجمال والكمال فى كل صوره حقيقة واحدة جمال وكمال واحد، هو الجمال والكمال الإلهي المطلق. ما هى الحياة إذن لو خلت من جمال الروح وكمال العقل؟ فتصفية النفوس وتنقية القلوب وجلاء البصيرة والتفكر فى خلق السموات والأرض ذلك هو نشيد الصوفي ولحنه فى محبة الله.

وأنهي "الجازولي" قائلا: إننا ندعو إلى ذلك الطريق العابق بأريج الحب والمعرفة الصوفية الكاملة، إلى التصوف الذى يرى الحياة جمالاً وكمالاً وعملاً، إلى حب ليس فيه كراهية، إلى معرفة ليس فيها عُقَد، طاعة ليس فيها معصية. ونبذ الشائعات والعمل بحديث رسول الله الذي رواه حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، قال رسول الله: "كفى بالمرء إثما أن يُحدِّث بكل ما سمع".

المقصد الربَّانى


ويؤكد د. منير القادري بودشيش- نائب الطريقة القادرية البودشيشة، رئيس مؤسسة الملتقى، مدير المركز الأورومتوسطي لدراسة الإسلام اليوم- أن المنهج الصوفى فى تربية النفوس وتوجيهها بما يتفق والمقصد الربانى هو المنهج الإسلامى الذى عني بإيجاد شروط الحياة المتوازنة للإنسان على صعيدي الباطن والظاهر، وعالج صلاح المجتمع بصلاح أفراده، بتزكية نفوسهم وتصفية بواطنهم، فالباطن هو الذي يحرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة. إن التوازن بين ما هو مادي وروحي هو الذي يؤَّمن للإنسان الإنطلاق في دروب الحياة. فيعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، كما يعمل لآخرته كأنه يموت غدا. ومن ثمّ تأتى ضرورة تربية النفوس على المزاوجة بين الخوف والرجاء، متلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر. فالخوف من الله سائقٌ للإنسان إلى فعل الخير، وحاجز له عن كل شر، والرجاء قائد له إلى مرضاة الله وثوابه، وإلى صالح الأعمال. إن مراقبة الإنسان لنفسه يثمر استقامته ويورث الصحة والاستقرار النفسي، فيغدو هذا الانسان صالحا نافعا لنفسه ولمجتمعه، وللناس أجمعين، مما ينعكس على المجتمع ككل بالأمن والأمان.

إن ‏السمو الأخلاقي والاستعداد الروحي للإنسان لنيل مقامات الكمال والإحسان، ركنٌ مهم في حياة الفرد والمجتمع، فالأخلاق مقوِّم أساسٌ في الحضارة الإنسانية؛ فواجبنا استعادة القيم الأخلاقية، والمبادئ السامية التي ضاعت في خضم الأحداث المتسارعة، وما يعرفه واقع المجتمعات من تحولات سلبية. فالرسول الكريم جعل الهدفَ الأعظمَ من رسالته إتمامَ مكارمِ الأخلاق، والإصلاح النفسي يعد الدعامةَ الأولى لتغليبِ الخير في هذه الحياة، والإنسان هو ذلك الكائن الأخلاقي الذي أعده الله سبحانه لقابلية الارتفاع بذاته إلى درجات الكمال البشري بمقتضى النفحة الإلهية التي استودعها الله.

إن التخلُّق بمكارم الأخلاق يمثّل خلاصة ما جاء به الشرع الإسلامي الذي اهتم ببناء الإنسان بناء متكاملا، مع ضرورة إعمار الإنسان معنويا وبنائه روحيا وأخلاقيا.

وإذا كان البعض يتهم الصوفية بالإغراق فى الغيبيات بالحديث عن الجنة والنار، والأخلاق والتربية الروحية، بعيدا عن الواقع المعاش، فإننا نقول لهم: ‏إن ما تفعله الصوفية عامة، والبودشيشية خاصة، من أنشطة وفعاليات، يدحض كل هذه الافتراءات والمزاعم.

أما مسألة الحديث عن الجنة فهى النعيم الدائم، أهلها يحظون بالنظر إلى وجه الله الكريم، فالجنة هي سلعة الله الغالية، ونيلها يتطلب ان يشمِّر الانسان عن ساعد الجد ويجتهد في طاعة الله، باتباع أوامره واجتناب نواهيه. وعلينا اغتنام فترة الشباب والصحة والغنى والفراغ بصالح الأعمال، فالجنة درجات، وأهلها يتفاوتون فيها على مقدار العمل في هذه الدنيا، وهو ما يستوجب الإحسان في العمل. وصلاح حال العبد ظاهرا وباطنا ينعكس ايجابا على حياته وحياة من حوله من الناس، ليعم النفع والخيرية الجميع، فينعكس ذلك إيجابا على المجتمع ككل، وهذا ما يؤكد أهمية ترسيخ القيم الروحية والأخلاقية للإسلام في النفوس، وأهمية الممارسة الفعلية لهذه القيم.

قانون الارتداد الإلهي

يضيف د. القادرى: نحن لدينا ما يُعرف بقانون الارتداد الإلهي، وهو أحد السنن الكونية، حيث خلق الله الكون ووضع فيه سنن وقوانين تحكمه، هذه السنن من قدره الجاري النافذ في الخلق أفرادا وأمما. والجزاء من جنس العمل، فمن يعمل خيرا يرتد إليه خيرا، ومن يعمل شرًّا يرتد إليه شرًّا، فما من عمل او فعل يقوم به الانسان إلا ويرتد عليه في مقابله عطاء او سلبًا، سعادة او شقاء. إن الله جعل لقيام العبد بالعبادات والطاعات وفعل الخيرات أثرا عجيبا يعود عليه وعلى أهله بالخير العميم، وتفريج الهموم، وقضاء الحاجات، والفوز بالنعيم المقيم، وانطلاقا من القرآن الكريم والهدي النبوي، حدّد أربعة بنود لقانون الارتداد الالهي وهي أولا: الاستغفار، وأثره في تحقيق أسباب السعادة في الدنيا من مال وبنين وغيرهما من أسباب السعادة. ثانيا: فعل المعروف الذي يقي صاحبه مصارع السوء التي تكدّر حياة الانسان وتنغِّصها من مرض أو نَصَب أو مصيبة أو حادث، ثالثا: الصدقة وإخراج الزكاة، طلبا لمغفرة الذنوب وتزكية النفس البشرية وطهارة لها من هذه المعاصي، رابعا: الحرص على صلة الرحم، فمن وصل رحمه بالبرِّ والإحسان، وصَلَه الله في عمره ورزقه.

''خُلَّة المتقين"

أضاف د. القادرى: وإذا تحدثنا عن ''خُلَّة المتقين وطلب وجه ربّ العالمين" فإن التربية الإحسانية تسعى الى صلاح الإنسان وصلاح حال الدنيا والدين عن طريق بناء جوهر الإنسان وتأهيله روحيا وأخلاقيا، هذه التربية تقوم على صحبة الشيخ المُربِّي، فالصاحب يكتسب صفات صاحبه بالتأثّر الروحي والاقتداء العملي، والاشتغال بالتربية الروحية الأخلاقية نهج يتوارث، بسند متصل. فليس كل من ادّعى المشيخة والتصدُّر لباب التربية صار مُرَبِّياً؛ ولو تلوَّن بِزِيِّ العارفين المُربِّين، ولو أظهر الخوارق والكرامات، فليس كل من لبس ثوب الأطباء صار طبيباً. وأستشهد هنا بمقتطف من رسالة الدكتوراه "مؤسسة الزوايا بالمغرب، بين الأصالة والمعاصرة" لشيخ الطريقة القادرية البودشيشية، مولاي د. جمال الدين- حفظه الله- "... إن تاريخ التصوف المغربي يبرز ان متصوفة المغرب كانوا يتميّزون بمنهج خاص في التربية والسلوك، يقوم على أساس الورع والاجتهاد في العبادة على منهج السلف، بعيدا عن لغة الأحوال والمقامات كما أنهم لم ينقطعوا عن ممارستهم للحياة الاجتماعية العادية وكانوا يسلكون طريق التذوّق والارتقاء في مقامات أهل الطريق مع عدم المبالاة بظهور الكرامات أو حصول الشُهرة ويسعون إلى التستُّر دون انعزال عن المجتمع...".

فالعبادات ينبغي أن تثمر سلوكا من الرحمة واللّين والمعاملة بالحسنى، فكل خير وكل فضل في حياة الإنسان ما هو إلا ثمرة من ثمار طهارة قلبه ونقاء روحه بكلمة التوحيد الطيّبة، ونور الإيمان بالله فيصلح باطنه وظاهره، ويحسن سلوكه وتحدوه الرغبة في خدمة إخوانه في البشرية وقضاء مصالحهم، كما حدث مع المسلمين التجّار الذين كانوا بحُسن معاملتهم سفراء لإسلام الرحمة وسببا في دخول أهل بلدان شرق آسيا وغرب إفريقيا طواعية إلى الإسلام.

قيمة التصوف

أكد د. القادري، أن قيمة التصوف تكمن في معالجته لآلام القلوب وتضميد جراح الجماعة التي مزّقتها رذائل أعضائها غير الصالحة. والتربية الصوفية مهمة جدا في "عصرنا الراهن، المتَّسم بطغيان الماديات والنزعة الفردية باعتبارها كفيلة بتوجيه الإنسان نحو طريق الهداية والسمو الأخلاقي والسلم والسلام المجتمعي". فهى تهدف إلى زرع الأخلاق الكريمة والطباع المستقيمة في نفوس الأفراد، وإن غايتها أن تبلغ بهم مراتب المقرَّبين في محبّة ربّ العالمين، موضحا انها تقوم على المداومة على العمل الصالح وكبح جماح النفس وشهواتها وتقوية النزعة الإنسانية والنفحة الإيمانية في النفوس.

وإذا كانت غاية التصوّف هي الوصول للحق عن طريق الحقيقة، فإنه مسار طويل مليء بالمجاهدات والمغالبات مع النفس وشهواتها وأطماعها وتنقيتها من الأكدار والأوساخ وسير في معارج الروح والترقّي الروحي إلى مقامات المحبّة والمعرفة.

وأكد أن الآداب العالية والأخلاق السامية في التصوّف إنما هي عناصر نفسية وخُلُقُية يقوم عليها ويتألّف منها الدستور الأخلاقي الذي رسمه الصوفية لطريقهم، وعملوا به في رياضاتهم لأنفسهم. وبهذا الدستور الخُلُقُي الأخلاقي كانوا خير عون على إحياء تعاليم الكتاب والسنّة في نفوس المعتنقين للإسلام، وكانوا أطباء للنفوس الإنسانية أخيارا يدعون إلى الخير والفضيلة، أوفياء لحقوق الله وحقوق البشر.

أما الزهد عند الصوفية فلا يعني العُزلة عن الحياة وعدم المشاركة فيها، وأن غاية المدرسة الصوفية من عملها التربوي كما جاء في كتاب (المذاهب الصوفية ومدارسها لحكيم عبدالغني قاسم) "هو خلق جيل جديد يحب الخالق ويسعى لإرضائه بالعمل والفكر والمشاركة في المجتمع الإسلامي".

سِرُّ الله


ويُعرِّف د. محمد مهنا- أستاذ القانون الدولى بجامعة الأزهر، وأحد قيادات التصوف بالعشيرة المحمدية- التصوف بأنه فقه الدين قاطبة، والفقه بالدين توثيق وتخريج، هو الكتاب وما جاء النبى به، وكل شئ سوى هذا فمحجوج، إن التصوّف سِرُّ الله يمنحه من قد أحبّه، وحب الله تتويج، وإنما الحب أخلاق ومعرفة، ذكر وفكر وترويح وتأريج، وتحقيق الخلافة فى أرض الإله وإلا فهو تهريج.

وليس هو راقصين ولا وطبل ومزمار وإصخاب وتهييج، ولا بالذكر ألفاظا ساذجة محرّفات ولا صَعْقٌ وتشنيج، ولا مواكب رايات ملوّنة فيها لِما يغضب الديّان ترويج، ولا العِمَّة الكُبرى ولا سُبَحٌ حول الرقاب ولا جمع مفاليج، ولا مظاهر آثام الموالد أو تكاثر برجال خَيْرِهم عُوْجُ، ولا التعطل ودعوى الولاية أو صنع الخوارق أو كذب وتدبيج، ولا وشاح ولا عكاز، ولا نسب إلى النبى من البهتان منسوب، وليس بالإجازات تُشْرَى أو وظائف صِرْفُها بالزيف ممزوج، وليس بالفلسفات الهوج ينتقلها كالببغاوات قلة هوج.

طاعة واتباع

قال د. علاء جانب- عميد كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر-: التصوف الذي أعرفه يتلخّص -كما تعلّمته من الشيوخ الكرام وعلى رأسهم د. السيد دياب، الشيخ محمد زكي الدين ابراهيم، الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، وجميع شيوخ الجامع الأزهر السابقين- هو اتباع لسيدنا رسول الله على منهجه وطُرُقِه التي تتسَلْسَل في الأخذ حتى تصل إلى رسول، التصوف علم بالكتاب والسنّة وعمل بهما نصًّا فيما هو معلوم بنص صريح، واجتهادا وقياسا فيما ليس فيه نص صريح ويدخل في باب المباح الذي هو الأصل في الحل، اتباع شيخ متشرِّع يقيم الشريعة ولا يعرف عنه إلا الاستقامة والبُعد عن الكبائر والسفاسف، ليس عن طريق العصمة فهي للأنبياء ولكن عن طريق المجاهدة وهي للأولياء المتّبعين المجاهدين المجتهدين العاملين.


فإذا انحرف الشيخ أو غلبت عليه ليونة العود وضعف النفس، فأنت في حلٍّ أن تخلع يدك من يده. العهد الذي بيني وبين شيخي مثلا:" الطاعة تجمعنا والمعصية تفرِّقنا" وشيوخنا يسمّون أنفسهم خَدَمًا لإخوانهم في الطريق، تواضعا وأدبًا، وهم يفعلون حاجاتهم بأنفسهم ولا يأمرون بها أحدا، ومع ذلك نتمنّى أن يكلّفونا بشئ.

أضاف: شيوخنا علماء في تخصصاتهم وفي الشرع لا يقولون إلا بالكتاب والسنّة. والتصوف أدب ومجاهدة للنفس ولظروف الحياة وهو مجرّد مصطلح لعلم يهتم بالسلوك الإنساني في جعله كله لله لكي يصل الإنسان إلى ربّه وقد أدّى ما يستطيع وجاهد حق الجهاد وهو علم جدَّ واستحدث مع علوم شرعية كثيرة كانت موجودة بالقوة ثم جُعلت لها قواعد وضوابط مثل علم التفسير والحديث والنحو والبلاغة والأدب والفقه وأصول الفقه، فالتصوف ليس دينا وإنما هو علم من علوم الدين يهتم بالسلوك والأخلاق، وظهر حين طغت المادة على الناس موازيا لعلم الفقه، فالفقه يضبط حركات الجسم والتصوف يضبط خطرات النفس، ويحاول إبعاد الشيطان عنها.

استطرد "د. جانب": في التصوف مخالفات نعم، كما في الحديث موضوع ومكذوب، وفي التفسير إسرائليات، وفي النحو مسائل لا تزري به، وأهل كل علم ينقّون علومهم من الشوائب. والقاعدة العامة التصوّف هو محاولة الوصول إلى مقام الإحسان في الإسلام. وكل مخالفة للشرع ليست من التصوف في شيء. التصوف أدب مع الله بطاعته ومع النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه، ومع الشيوخ بلزوم التعلم منهم، ومع كافة خلق الله بالتعامل بالحسنى، كل بما يجب له. فالصديق صديق والعدو عدو.

هذا ما أعرفه، أما الشيوخ مُكَحَّلو العيون ولابسوا المزركشات والفاتحينها على البحري! فالله أعلم بهم! إننا تربّينا على أيدي شيوخ رجال سلاطين منحهم الله هيبة الحق. فانظروا إلى الشيخ أحمد الطيب مثلا. فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟!

عين التحقُّق


ويؤكد د. محمد ابراهيم حامد- مدير الدعوة بأوقاف الشرقية- أن التصوف الحق هو عين التحقُّق بالدين، بل هو أعلى مقامات الدين وهو مقام الإحسان، وذوق معانيه الراقية وأسراره الرفيعة الصافية لا يتحقق إلا لأرباب الطريق الذين التزموا بشعائر الدين الظاهرة وأوامر الوحي الساطعة متمثّلة في كتاب الله وسنَّة الحبيب المعصوم، فليس للصوفية الحقّة عقائد خاصة ولا طقوس دينية مخالفة للكتاب والسنّة. علوم الذوق زائدة على علوم الفكر، ولا يعقلها أو يدركها إلا من تزكَّى، وحديث غير ذوي الصفة من الضلالية الذين حُرموا لذة التذوّق في علوم التصوّف مهما بلغت درجاتهم في العلم أو عَلَت بهم مناصبهم الدنيوية كلام هابط وساقط لا وزن له ولا اعتبار، بل هو كلام إلى الإضلال والضلال أقرب، فلا يقبل اي حديث عن التصوف الصحيح المستمِد جذوره من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة إلا عن الصالحين وأهل العلم. أما من يتصدَّر ويهْرِف في كلام القوم بما لا يعرف فهو خائن للأمانة العلمية، متطاول على الأكابر، وكلامه مرفوض جملة وتفصيلا، كما أن أغلب المتصدِّرين من الجهلة وطلاب الشُهرة والمعاتيه لا يمثّلون إلا أنفسهم الدنيّة ولا يمثّلون التصوّف الحق، هم عُبَّاد الشُهرة ليس أكثر! والتصوّف منهم ومن أمثالهم براء.

0 تعليقات

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم