أثر التاريخ فى تجسير الثقافة الدبلوماسية

 

بقلم: ا.د. حسن السعدى

قسم التاريخ والآثار- كلية الآداب- جامعة الأسكندرية

نظراً لكون التاريخ أحد أهم سبل القوة الناعمة فى التلاقى الثقافى، فإن التبادل المعرفى المستدام يمكن أن يجعل منه قوة دافعة للأمام، لا قوة "إرتجاعية" –إن جاز التعبير و ذلك بعدم حصره فى الماضوية بكل مفرداتها مما يؤدى إلى إعاقة الرؤية الإستشرافية التى هى عماد الدفع المستقبلى. و يزيد الطين بلة إذا ما إكتنفت هذه الماضوية حالة من حالات القداسة الأسطورية أو التابوهات السياسية والدينية التى تتحكم فى موضوعية الرؤية التاريخية أيا ما كانت، لاسيما إذا ما إعتبره البعض بمثابة الإرادة الربانية وأن الإنسان أداتها فى التحقق.

كما تأتى السردية التقريرية لتنتقص من تأويلية السرد، بحيث يصبح الطرح التاريخى فى ضوء القراءة الوثائقية حالة من الأرشفة الممنهجة لا تمت للمعرفة التاريخية إلا بالإطار المعلوماتى. و أخيراً فإن التخلى عن دعاوى الأبوة الحضارية و البنوة بالتبعية التى عرفها التاريخ الإنسانى منذ الهيمنة الرومانية و حتى القوى العظمى فى العصر الحديث، من شأنه أن يجعل من التاريخ عنصراً محرراً من قيود التبعية حتى لو كانت بصيغة "الدولة الأولى بالرعاية".  

أما عن كيفية أن يصبح التاريخ من مصادر القوة الناعمة ومن ثم التجسير الثقافى للدبلوماسية فذلك يتوقف على عدم تناوله كعلم تفاؤلى يقتصر على الأخبار الطيبة – حسبما يرى البعض- إذ أن الإعتراف بالتعديات التى لا تسقط بالتقادم مثل جرائم التصفية العرقية أو إستخدام الأسلحة المحرمة أو دعاوى التصفية المعنوية قبل الجسدية و غيرها من شأنه أن يجعل منها عنصرا قوياً يفضى إلى الإعتذار أو التعويض بأشكاله المختلفة، كأحد اهم مراحل التجسير الدبلوماسى قبل أن تليها المراحل الملتزمة بأطر التعايش السلمى و دعم ثقافة الإختلاف لفهم الآخر و من ثم قبوله. إذ أن ما عداه سيظل مكرساً لحالة من حالات التنافر المعرفى COGNITIVE DISSONANCE وما يستتبعه من مغبة الاستقواء أو الإقصاء.

و على الصعيد السياسى العربى فالإهتمام بهذا النوع من بناء الجسور مفتقد إلى حد كبير سواء داخلياً حيال المعارضة المشروعة فى العمل السياسى، أو خارجياً بحكم توازنات القوى العالمية والاتفاقات غير المعلنة. وهو ما من شأنه تزييف الوعى بكتابة تاريخ يتفق و معطيات مرحلة بعينها أو العكس. لا سيما فى ضوء ضعف الإقبال على كتابة السير الذاتية للمسئولين، فضلاً عن تعثر كتابات "التاريخ من أسفل"، بحكم الخلط بين التاريخ و السياسة فى عالمنا العربى. و هو ما ينقلنا للممارسات التى قد يكون رصد سلبياتها سبيلا للممارسات الإيجابية لا سيما فى مجال التعليم من منطلق أن الشىء يستبين بنقيضه. 

لذا فلو نظرنا لواقع التاريخ فى المؤسسات البحثية والأكاديمية العربية لوجدناه متأثراً بكافة آفات البحث العلمى، بدءاً من ضعف البنية العلمية للأفراد من جانب وانتهاء بقضية التمويل لكل مفردات الدراسة بالشكل الذى ينال من القيمة العملية للتاريخ فى تفعيل التجسير الثقافى. ومن ثم فإنه من الأهمية بمكان التركيز على إعلاء قيمة دراسة التاريخ على المستوى المجتمعى، وتذليل كافة العقبات التى تعيق ذلك الهدف. الأمر الذى سينعكس على إنجاح الأهداف الإستراتيجية للدول العربية من خلال مضمون الدراسات التاريخية، حال الإلتزام بالموضوعية العلمية والاتساق مع البعد الوطنى الذى يزكى من قيمة المواطنة و الإنتماء و يعلى أيضاً من قيمة النقد والتحليل فضلاً عن الرؤية المستقبلية الاستشرافية التى تستند على مفاهيم "التوسم " PHYSIOGNOMIQUE " و"التأريخ الإفتراضى VIRTUAL HISTORY " فضلاً عن مستقبل الماضى " THE FUTURE OF THE PAST . حيث تعنى جميعها باسترجاع الحدث وفق قدرات ذهنية منهجية مع الإلتزام بطرح السؤال الإستشرافى بالإستفهام "لم لا ؟"WHY NOT بديلاً عن " لم"WHY . و هى توجهات كفيلة بأن تجعل من أحداث التاريخ قوة دافعة إيجابية، وتحجيم سلبيات المواجهة للكثير من العقد التاريخية المركبة فضلاً عن تقديم رؤى إستشرافية أو رؤى توافقية تقرب بالتاريخ ما قد تفسده السياسة فى حياتنا المعاصرة. أملاً فى أجيال أكثر عروبية وأوقع عالمية بشراكة ترى فى تاريخ الأوطان مسئولية ذاتية وفى تاريخ الإنسانية مسئولية جمعية. مصداقاً للمقولة الشهيرة (لو اتفق العالم على كتاب واحد للتاريخ لانتفت الحروب)، أى بالأحرى لقويت دعائم تجسير الدبلوماسية الثقافية محلياً وإقليمياً ودولياً.


0 تعليقات

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم