بقلم السيد أحمد علاء أبو العزائم
نائب عام الطريقة العزمية
لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود مما خلقه في الأرض والسماء وما فيهما، خلقه الله ليعمر به ملكه وملكوته، وجعله خليفة عنه في أرضه، والخليفة في الأرض هو سيد مَن في الأرض ومَن في السماء، وجعل له ملك الأرض مقرًّا للإقامة ومستقرًّا له بعد موته، ثم ينشئه النشأة الثانية، فيمنحه الملك الكبير.
لذلك ابتلاه الله تعالى بأن سخر له ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه، وصرَّفه تصريف الربوبية في المُلْك، فكل ما في المُلْك والمَلَكُوت مسخَّر له بإذنه تعالى.
بشاراتُ المولدِ الشريف لأهل الأرض والسماء
بشاراتُ يومِ مولدِه
جاء الوقت الموعود لإشراق شمسه صلى الله عليه وسلم، بعد أيامِ حملٍ حافلةٍ بالبشارات بقرب مولده، ليبدأ رسالته السامية في إنقاذ البشرية من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان.
وكأن رحلته الإصلاحية لم تكن منذ بعثته في الأربعين من عمره الشريف فحسب؛ ولكن أسرارها وأنوارها بدت بمجرد مولده o؛ وقد ظهر ذلك جليًّا كما ذكرت الروايات التي تقص أحداث مولده واسترضاعه في ديار بني سعد، وحديث الكهان عنه ومعه، وما كان في أيام عمره الشريف الأولى قبل البعثة النبوية.
وقد ذكر الإمام المجدِّد السيد محمد ماضي أبو العزائم قسطًا وافرًا من أحداث مولده الشريف في كتابه: “بشائر الأخيار في مولده المختار”، فصَّل فيها ما حدث ساعة مولده الشريف، وما كان من احتفال أهل الأرض والسماء بمولده، وما أرسله الله في يوم مولده من ملائكة وغيرهم ليكونوا في شرف استقباله، ومما بيَّنه الإمام أن أرجح الأقوال المروية في مولده الشريف كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول؛ ليزيل الخلاف الدائر عن يوم وساعة مولده.
يقول الإمام المجدِّد: “ولما أن أراد الله سبحانه وتعالى أن يتجلى بالرحيم الرحمن، وأن يظهر جليًّا سبحانه بالمنعم الحنان المنان؛ أكمل سبحانه أيام حمله، حتى آن للعالم أجمع أن يفوز بأمله،
وكانت أمه الطاهرة الصفية؛ لا تحس بألم الحمل ولا تشعر بقرب الوضع بخلاف العادة المرعية، حتى حان أن تشرق تلك الشمس جلية، وتشهد للعقول والأجسام علية، شعرت قبل طلوع فجر ليلة الاثنين ثانية عشرة ربيع الأول على أرجح الأقوال المروية، وهي منفردة كعادتها، ليس معها من يعينها في حجرتها، إلا أن ما توالى عليها من البشائر والهواتف والرؤيا المنامية؛ جعلها منشرحة الصدر بمعونة رب البرية”.
ليس لأحد من الخلق فضل على رسول الله: وتقدير المولى سبحانه أن تكون السيدة آمنة رضي الله عنها، منفردة في بيتها؛ ليس معها أحد يعينها في تلك الساعة الدقيقة؛ حتى لا يكون لأحد من الخلق فضل على سيدنا رسول الله.
لكنه سبحانه اختص مَن اختص مِن أهل الفضل ليكونوا في استقباله.
يقول الإمام أبو العزائم: “وبينما هي بين وحشة الوحدة والألم، والأنس بما شهدته إذ رفع لها علم؛ عم الخافقين ضياؤه، وأدهش عقلها بهاؤه، وإذا بطيور سدت الأفاق، ترفرف بأجنحتها مسبحة للخلاق، فنظرت فرأت نسوة أحطن بها من كل جانب، فظنتهن من الجيران والأقارب، وقلن لها: نحن آسية ومريم ابنة عمران، ومعنا الحور العين للتحية والإكرام”.
وقولهن: “للتحية والإكرام” إشارة إلى أن وجودهن ليس لأجل المساعدة والمعونة للوالدة الكريمة في وقت وضعها لسيدنا رسول الله o، بل جئن احتفالًا واحتفاءً به o، وأنسًا لوالدته سلام الله عليها.
لحظة المولد الشريف لحظة فارقة… انتظرها الوجودُ كلُّه:
وقد سَخَّر اللهُ تعالى لها من الكون عوالم تخدمها وتهدئ من روع جلال لحظة المولد الشريف عليها، فإنها لحظة تحوّل كبيرة، انتظرها الوجود كله، وانتفض الكون فرحًا بمولده، وتهيأت السماء بعمارها وتزينت، وكيف لا؟!؛ وصاحب الفرح هو سيدنا رسول الله.
فهي لحظة فارقة، وأنوار ساطعة، ومشاهد قدسية، وكل ذلك شهدته السيدة الطاهرة آمنة عليها السلام، وقد أعطاها المولى سبحانه القدرة على تحمل تلك المشاهد العلية، والأنوار المحمدية، تارة بهواتف تسمعها، وتارة بشراب تتناوله، وتارة بكشف بصرها لترى ما لا يراه الإنسان بطبيعة حاله.
وقد روى ابن سعد أن رسول الله قال: (رأَتْ أُمِّي حِينَ وَضَعَتْنِي سَطَعَ مِنْهَا نُورٌ أضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرى”، وفي رواية أنها قالت: “لما وضعتُه خرج معه نورٌ أضاءَ له ما بين المشرق والمغرب، فأضاءت له قصور الشام وأسواقها؛ حتى رأيت أعناق الإبل ببُصْرى”.
وفي الخصائص الصغرى: “ورأت أمه عند ولادته نورًا خرج منها أضاء له قصور الشام”، وغير ذلك مما قدره الله تعالى، فهو تثبيت رُوحاني كما عبَّر عنه الإمام أبو العزائم.
وقالت السيدة آمنة من حديث ابن عباس: “لما أن أخذني ما يأخذ النساء، ولم يعلم بي أحدٌ لا ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل، وعبد المطلب في طوافه، فسمعت وجبةً عظيمة وأمرًا عظيمًا أهالني، ثم رأيت كأن طائرًا أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وكل وجع أجده، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء فتناولتها فأصابني نور عال، ثم أريت نسوة كالنخل طوالًا، كأنهن من بنات مناف يحدقن بي، فبينا أنا أتعجب وأنا أقول: واغوثاه من أين علمن، واشتد بى الأمر وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم.
فبينا أنا كذلك، إذا بديباج أبيض “نسيج من حرير” قد سد بين السماء والأرض، وإذا قائل يقول: خذاه عن أعين الناس، قالت: ورأيت رجالًا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت، فإذا بقطفة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي، مناقيرها من الزمرد، وأجنحتها من الياقوت، فكشف الله عن بصرى، فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، فرأيت ثلاثة أعلام مضروبات؛ عَلمًا بالمشرق، وعَلمًا بالمغرب، وعَلمًا على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض فوضعت محمدًا – صلى الله عليه وسلم-“.
وأولئك الرجال وإن كانوا على صورة البشر؛ فهم ليسوا من البشر، لكنهم ملائكة أوكل الله إليهم مهامًّا في ذلك الحدث الجلل.
رفع أعلام النبوة إشارة إلى العز والنصرة:
ورفْعُ الأعلام إشارة إلى العز والنصرة التي ولد المصطفى بها، فإن العَلَم لا يُرفع إلا عن عز ودولة، لذلك يحارب المحاربون ويموتون، بل يستميتون حول رايتهم وأعلامهم من أن ينكسها أحد.
نعم… رفعت الأعلام؛ أعلام النبوة، أعلام سيدنا رسول الله.
وولد النور مشيرًا بأصبعه مسبحًا تسبيح المتضرعين، ساجدًا سجود الشاكرين، وكأنه قد حل بالأرض مستسلمًا لعظمة جلال الحق سبحانه، مستلهمًا قواه من وليه سبحانه، استعدادًا لمسيرة النور التي سينشرها في الأرض.
قالت السيدة آمنة: “لما خرج من بطني نظرت إليه، فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه كالمتضرع المبتهل”.
وروى ابن سعد: “أنه لما ولد وقع على يديه رافعًا رأسه إلى السماء”، وفي رواية: “وقع على كفيه وركبتيه شاخصًا ببصره إلى السماء” اهـ.
وقالت السيدة آمنة: “ثم نظرتُ إليه فإذا هو ساجد، ثم رأيتُ سحابةً بيضاء، أقبلَتْ من السماء؛ حتى غشيته فغيَّبَتْه عني، فسمعتُ مناديًا ينادي: طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها، وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلموا أنه سمي فيها الماحي، ولا يبقى شيء من الشر إلا محي في زمنه، ثم تجلت عنه في أسرع وقت…” الحديث.
نعم… إنها ساعة التعريف بالمخَلِّصِ الأعظم، فإن رسالته الغالية ليست لإنقاذ بني البشر فقط؛ لكنه رحمة الله العامة لكل موجود، بما جمعه الله فيه من خصائص أودعها في المصطفين من خلقه من أنبيائه ورسله الكرام.
إرسال تعليق