يتجدد كل عام فى مثل هذا الوقت، إثارة الجدل من المتسلفة والمتفيهقة وادعياء العلم، بتحريمهم وتبديعهم الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف.
وقد رد سماحة مولانا السيد عز الدين أبو العزائم، مفندا هذه الادعاءات، ومؤكداً مشروعية الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، فقال:
يدخل فى التجديد وفى التطور، وفى العمل بما فيه صالح الحياة، وخير المجتمع، الاحتفال بمولد النبى وإحياء موالد أهل البيت عليهم السلام وأولياء الله الصالحين رضى الله عنهم، والذى يعترض عليها إنما هو جاهل أو دعي، ومع الأسف لا يوجد فى أى بلد آخر من الأدعياء كما يوجد فى بلادنا، والجهل عندهم أساس الهجوم- مع أن الجهل كان يجب أن يكون أساسًا للصمت – فإذا نظرنا إلى نتيجة الموالد ألفيناها عظيمة جليلة.
فالمراد بالحج مثلاً هو تعظيم الإسلام فى نظر خصومه، واجتماع المسلمين فى ساحة واحدة للطاعة والذكر والعبادة، فذكريات سيدنا إبراهيم وبناء البيت،وهاجر وابنها ذكريات يعيش فيها الحاج معيشة روحية، إنه يصلى فى مقام إبراهيم وحجر إسماعيل، إنه استمرار لذكريات مجيدة، وتصفية للنفس وتزكيته.
إن المسلم لا يشهد فى هذه الأماكن الأحجار، وإنما يشهد الذكريات.
والموالد إنما هى بعث لذكريات طيبة، ذكرى إنسان أطاع الله واهتدى به الناس، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
والموالد إنما هى وفاء منا لأهل الخير، واستنهاض الهمم للمسابقة إلى فعل الخيرات؛ والموالد حب منا لمن أحب الله تمسكا بأوثق عرى الإيمان، كما يقول: (أوثق عرى الإيمان الحب فى الله والبغض فى الله).
والموالد مواسم للبر بالفقراء والمساكين وتنمية روح العطف عليهم.
فالموالد لهذا كله مواسم للخير فى الدين والدنيا، وهى سنة حسنة استنها المصلحون العاملون.
ليلة المولد أفضل من ليلة القدر وأدلة ذلك:
أولاً: إن ليلة المولد ليلة ظهوره وليلة القدر معطاة له، والذى شرف بظهور ذات المشرف من أجله اشرف مما شرف بسبب ما أعطيه ولا نزاع فى ذلك، فكانت ليلة المولد أفضل من ليلة القدر.
ثانيًا: إن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، على أحد الأقوال فى سبب تسميتها بذلك، وعلى قول آخر أن الذى يراها يصير ذا قدر، وعلى قول آخر لما يكتب فيها من الأقدار وفيها يفرق كل أمر حكيم، وليلة المولد شرفت بظهوره، ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر وهم الملائكة على الأصح عند جمهور أهل السنة من أن النبى أفضل من الملك، فإن نبينا أفضل من جميع العالمين إجماعًا، فتكون ليلة المولد أفضل.
ثالثًا: إن ليلة القدر وقع فيها التفضيل على أمة محمد فقط لأنها مخصصة لهم ولم تكن لمن قبلهم، وليلة المولد الشريف وقع الفضل فيها على سائر جميع الموجودات أمته وغيرهم من حيث الأمن من العذاب كالخسف والمسخ، فهو الذى بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين فعمت بمولده النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أهم نفعًا، فكانت بذلك أفضل من ليلة القدر.
رابعًا: ليلة القدر لم تكن موجودة إذ ذاك، وإنما أتى فضلها على سائر ليالى السنة بعد الولادة بمدة، فلم يكن اجتماعهما حتى يأتى بينهما تفضيل، وتلك انقضت، وهذه باقية إلى اليوم.
أول من أحدث عمل المولد:
أول من أحدث عمل المولد صاحب أربل الملك المظفر أبو سعيد كوكدى بن زين الدين على أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذى عمر الجامع المظفرى بسطح قايسون.
قال ابن كثير فى تاريخه: كان يعمل المولد الشريف فى ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً وكان شهمًا شجاعًا بطلاً عاقلاً عالمًا عادلاً.
وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب بن دحية مجلدًا فى المولد النبوى سماه (التنوير فى مولد البشير النذير) فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته فى الملك إلى أن مات وهو محاصر للإفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة، محمود السيرة والسريرة، وقال سبط بن الجوزى فى مرآة الزمان: كان يحضر عنده فى المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم وكان يصرف على المولد فى كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أى جهة على أى صفة، فكان يصرف على هذه الدار فى كل سنة مائة ألف دينار، وكان يصرف على الحرمين والمياه بدرب الحجاز فى كل سنة ثلاثين ألف دينار هذا كله سوى صدقات السر، وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه من كرباس غليظ لا يساوى خمسة دراهم، قالت: فعاتبته فى ذلك فقال: ألبس ثوبا بخمسة، وأتصدق بالباقى خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير والمسكين.
رأى الإمام أبى العزائم فى الاحتفال بالمولد:
أصغر مسلم لا يغيب عنه رسول الله ما دام يعمل بالقرآن وبسنة سيد المرسلين، فبشرى لنا بمولده الذى يذكرنا بما أكرمنا الله به من الخير والتمكين، نفرح بمولده فرحًا يفوق فرحنا بالعافية والمال، بل ويفوق فرحنا بالملك والعيال، نحى لياليه بالفرح والمسرات، حبورًا بمولده الشريف الذى توالت به الخيرات،وأى مسلم لا يحيى تلك الليالى فرحًا مسرورًا، تجديدًا لذكراه، وشكرًا لله تعالى على نعماه وحبورَا ؟! وقد عين الله للخير أوقاتًا وجعلها للعطايا آنات، كما جعل لغيث السماء أوقاتًا معينه، وجعل لزيادة النيل والأنهار هى الأخرى أيامًا معينة، فكذلك جعل أوائل ربيع الأول لتشرق فيها شمس الرحمة الربانية، وتفاض فيها أنوار الفضل الإحسانيه، فطوبى لمن أحيا تلك الليالى حبًا فى رسول الله، وقدم فيها الخير لينال ما يتمناه، بل وبشرى لمن بين للمسلمين شمائل الحبيب المصطفي، ووضح لهم ما نالته الأمة المحمدية من الخير والصفا، فتمثلت النفوس جماله المحمدي، وما تفضل به علينا من الخير بالنبى الأمي.
وإن كان ابن الحاج فى المدخل قد أنكر، فإنه غفر الله له حكم ولم يتبصر، إن إحياء ليالى المولد الشريف وإن لم يظهر فى عهد السلف، فإن أنفسهم كلها كانت ذكرى له وبه تحف، وكانت قلوبهم تتمثله فى كل همة وحركة، وتستحضره فى كل لمسة وسكنة، وقد شغلت الدنيا وحظوظها القلوب، فاحتاجت إلى اليقظة لذكر شمائل الحبيب المحبوب، لتحيا فى رياض الشهود وتتناول من طهور المشروب.
وإنى أستحسن كل الاستحسان، ما يقوم به المسلمون من إحياء ليالى المولد فى هذا الزمان، تجديدًا لذكرى من به أسعدنا الله بالإيمان، وإن ادعى من ينكر علينا بحصول المفاسد والبدع، فأن الخير العام الذى به كل إنسان انتفع، لا يمنع بحصول مفسدة بسببه إذا عم النفع به وسطع، ولو كان الأمر كذلك لكانت بعثة الرسل وشروق الشمس وإنزل الأمطار أولى بالمنع ممن منع، فليتق الله من يمنعون هذا الخير فإن منعهم هو شر البدع، والله تعالى يهدى من سبق له الهدي، ويضل من سبق له الردي، وإن فقراء آل العزائم يفرحون برسول الله ويشهدون أنواره عند ذكراه.
وخلاصة القول:
أن للموالد فوائد اجتماعية ودينية فهى تزيد من رابطة الولاء والمحبة بين المحتفى بهم وبين أوليائهم، وتجدد فى النفوس ذكر مآثرهم، كما تجمع أشتات المسلمين على صعيد واحد ليتعارفوا ويتآلفوا، ثم تطبع فى قلوبهم روح الانقياد إلى الله تعالى والانقطاع إليه.
الكتب المصنفة فى مولد النبي:
الكتب المصنفه فى هذا الباب كثيرة جدًا منها المنظوم، ومنها المنثور ومنها المختصر والمطول والوسط، وسأقتصر هنا على ذكر كبار علماء الأمة من الحفاظ والأئمة الذين صنفوا فى هذا الباب وظهرت لهم موالد مشهورة معروفة فمنهم:
1- الحافظ عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن المصرى الشهير بالحافظ العراقى المولود سنة 725 هـ والمتوفى سنة 808 هـ، إن هذا الإمام قد صنف شريفًا أسماه (المورد الهنى فى المولد السنى) ذكره ضمن مؤلفاته غير واحد من الحفاظ مثل ابن فهد والسيوطى فى ذيولهما على التذكرة.
والإمام الكبير الشهير أبو الفضل زين الدين وحيد عصره وفريد دهره حافظ الإسلام وعمدة الأنام العلامة الحجة الحبر الناقد، من فاق بالحفظ والإتقان فى زمانه وشهد له بالتفرد فى فئة أئمة عصره وأوانه، برع فى الحديث والإسناد والحفظ والإتقان، وصار المشار إليه فى الديار المصرية بالمعرفة.
2- الحافظ محمد بن أبى بكر عبد الله القيس الدمقشى الشافعى المعروف بالحافظ ابن ناصر الدين المدمشقى المولود سنة 777 هـ والمتوفى سنة 842 هـ قال عنه الحافظ بن فهد فى لحظ الألحاظ ذيل تذكرة الحفاظ ص 319: هو إمام حافظ مفيد، مؤرخ مجيد، له الذهن الصافى السالم الصحيح، والحظ الجيد المليح، على طريق أهل الحديث.
وقد تولى مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق، وقال عنه السيوطي: صار محدث البلاد الدمشقية. وقال الشيخ محمد زاهد فى تعليقه على ذيل الطبقات وقال الحافظ جمال الدين ابن عبد الهادى الحنبلى فى الرياض اليانعة لما ترجم لابن ناصر الدين المذكور: قلت إن هذا الإمام قد صنف فى المولد الشريف اجزاء عديدة، فمن ذلك ما ذكره صاحب كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون ص 319، وجامع الآثار فى مولد النبى المختار فى ثلاثة مجلدات، واللفظ الرائق فى مولد خير الخلائق، وهو مختصر، وقال ابن فهدة وله أيضًا مولد الصادى فى مولد الهادي.
3- ومن أولئك الحافظ بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد القاهرى المعروف بالحافظ السخاوى المولود سنة 831 هـ والمتوفى سنة 902ه بالمدينة المنورة، وهو المؤرخ الكبير والحافظ الشهير ترجمة الإمام الشوكانى فى البدر الطالع وقال هو من الأئمة الأكابر.
وقال ابن فهد لم أر فى الحفاظ المتأخرين مثله، وهو له اليد الطولى فى المعرفة وأسماء الرجال واحوال الرواة والجرح والتعديل، وإليه يشار فى ذلك، حتى قال بعض العلماء: لم يأت بعد الحافظ الذهبى مثله سلك هذا المسلك، وبعده مات فن الحديث، وقال الشوكانى ولو لم يكن له من التصنيف إلا الضوء اللامع لكان أعظم دليل على إمامته.
قلت: وقد قال فى كشف الظنون أن للحافظ السخاوى جزءًا فى المولد الشريف.
4- ومن أولئك الحافظ المجتهد الإمام ملا على قارى بن سلطان بن محمد الهروى المتوفى سنة 1014 هـ صاحب شرح المشكاة وغيرها.
ترجمة الشوكانى فى البدر الطالع وقال: قال العصامى فى وصفه بالجامع للعلوم النقلية والمتضلع من السنة النبوية أحد جماهير الأعلام ومشاهير أولى الحفظ والأفهام، ثم قال: قلت: هذا الإمام المحدث المجتهد الذى ترجم له الشوكانى الذى قالوا عنه: إنه مجتهد قد صنف فى مولد الرسول كتابًا، قال صاحب كشف الظنون: واسمه المورد الروى فى المولد النبوي.
5- ومن أولئك الحافظ الإمام عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير صاحب التفسير.
قال الذهبى فى المختص: الإمام المفتى المحدث البارع ثقة متفنن محدث متقن.
وترجمة الشهاب احمد بن حجر العسقلانى فى الدرر الكامنة فى أعياد المائة الثامنة فى صفحة 374 جاء منها: إنه اشتغل بالحديث مطالعة فى متونه ورجالة.
وقد صنف الإمام ابن كثير مولدًا نبويًا طبع أخيرًا بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد.
6- ومن أولئك الحافظ وجيه الدين عبد الرحمن بن على بن محمد الشيبانى اليمنى الزبيدى الشافعى (المعروف بابن الدبيع والدبيع بمعنى الأبيض بلغة السودان وهو لقب لجدة الاعلى ابن يوسف) ولد فى المحرم سنة 866ه وتوفى يوم الجمعة ثانى عشر من رجب الفرد سنة 994 هـ وكان رحمه الله أحد أئمة الزمان إليه انتهت مشيخة الحديث، حدث البخارى أكثر من مائة ألف مرة وقرأه مرة فى ستة أيام. وقد صنف مولدًا نبويًا مشهورًا فى كثير من البلاد.
7- ومن أولئك الإمام المجدد السيد محمد ماضى أبو العزائم أستاذ الشريعة الإسلامية لجامعة الخرطوم سابقًا، الذى صنف فى مولد الرسول كتابه المسمي: (بشائر الأخبار فى مولد المختار) الذى طبع عدة مرات، أولها عام 1340 هـ الموافق 1921م وتقوم (دار الكتاب الصوفى) حاليًا بعرض أحدث طبعاته.
إرسال تعليق