"اتَّقِ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ"

 

بقلم: د. روحية مصطفى أستاذ الفقه بجامعة الأزهر

تنتشر على ألسنة كثير من الناس عبارة: "اتق شر من أحسنت إليه"، وعادة تُقال بعد أن يُقدِّم الإنسان لآخر معروفاً، ثم يقوم الآخر بإنكار المعروف أو مقابلته بالسيّئة، أو بعدم الاكتراث لفاعل المعروف، بل قد يخاف بعض الناس من فعل الخير بسبب هذه الجملة، وهي شبيهة المثل العامي الذي يقول: "خيرا تعمل شراً تلقى"؟!

فهل التعبير بهذه الجملة صحيح على الإطلاق من منظور إسلامي أم لا؟

أقول وبالله التوفيق: عبارة: "اتق شر من أحسنت إليه" ليست حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما مقولة قديمة لأحد السلف، وقد قاله في حادثة معينة، فاختلط الأمر بمرور الزمن على الناس فظنّوه حديثاً، والتعبير بهذه المقولة للتحذير من الإحسان إلى الناس بشكل مُطْلَق يناقض منهج الشريعة الإسلامية وذلك للآتي: 1- الإحسان أمره عظيم وهو مطلوب ومحمود على الدوام. وقد سُئل النبي الكريم في حديث جبريل عن الإحسان. قال: "فأخبرني عن الإحسان"، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وفي هذا دلالة على رُقِيّ وعِظَم مرتبة الإحسان، التي هي أعلى مراتب الدين وأشرفها، حيث اختص الله أهلها بالعناية وأيدهم بنصره في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) النمل 128.

2- يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (9) الحشر، فهذه الآية الكريمة فيها مدح للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى هذا المال دون النطر إلى رد فعل من يحسنون إليهم.

3- قوله تعالى: "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (60) الرحمن، فالله سبحانه وتعالى يجازي من يفعل الإحسان بالإحسان وقد يعجل الجزاء في الدنيا من طريق غير طريق الشخص الذي أحسنت إليه، وقد يؤجِّل الجزاء في الآخرة.

4- إن فعل الخير والإحسان إلى الناس، مندوب إليه شرعا، بل قد يصل إلى درجة الوجوب لو توقّفت حياة المحتاج إلى هذا المعروف، فمن يجد أمامه إنسان يغرق، لا يفكر قبل أن ينقذه، هل سيشكرني أم لا؟ هل سيقابل هذا المعروف بالمعروف أم لا؟ بل الواجب علىه أن ينقذه دون انتظار مقابل لذلك، لأن الله تعالى يرد لنا الخير الذى نفعله بطرق مختلفة حتى لو لم يردها الشخص الذى قدمنا الخير له، وذلك عن طريق راحة البال، والبركة فى المال، والنجاح فى العمل، وحب الناس وغير ذلك، ولذا نبهنا الله تعالى في قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ" البقرة ( 264 )، إلى ألا نبطل المعروف بالرياء والأغراض الدنيوية؛ لأن معروفك هذا سيُنَكر على عادة بعض الناس٬ وقد ينقلب ما قدمتَ من خير شراً عليك.

إذن: عليكم بالنظر في أعمالكم إلى وجه الله لا إلى غيره، فإنْ حدث وأُنكر جميلك فجزاؤك محفوظ عند الله٬ وكأن ربّك عزّ وجلّ يغار عليك٬ ويريد أنْ يحفظ لك الجميل ويدخره عنده.

5- هذه العبارة على إطلاقها تحمل سلوكاً سلبيا في التربية النفسية لدى الناس وهي: تأهيل النفس البشرية على استثاغة الشر والعدوان مع من قدم لها معروفاً، وأيضاً ترسيخ فكرة كل خير يقابله شر مستطير، مما يؤدي بالناس إلى الامتناع عن فعل الخير حتى لا يصابوا بأذى ممن قدموا لهم الخير.

 6- أن هذا القول ليس على إطلاقه، بل هو محمول على اللئام غير الكرام، فهناك ناس اذا احسنت اليهم حملوا هذا الجميل وينتظرون الفرصة لرد الجميل وطول العمر لا ينسون هذا الجميل وربما هم من أحسنوا اليك اكثر ما أنت محسن اليهم وما زالوا يكررون أنك أحسنت اليهم ويغبطون أن هناك من ساعدهم، ومن الناس من قابلوا الإحسان بالإساءة أو النكران، وهؤلاءالذين ورد فيهم قوله تعالى: (وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) سورة التوبة آية 74 ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجدت لئيما إلا قليل المروءة، وقال أبو عمرو بن العلاء أحد الأئمة يخاطب بعض أصحابه: "كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا رحمته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك".

7- هذه العبارة على إطلاقها فيها دعوى لترك الاحسان، والتزهيد في عمل الخير، وفيها دعوة لسوء الظن بالمسلمين وترك ما دعا له الاسلام بالعفو والتسامح والصفح عن المذنب، وهذا يخالف منهج الشريعة الإسلامية، إن المسلم قد يكون أحيانا معرَّضاً للجحود. وأن يقابل احسانه بالنكران، ولكن ليس علينا ان نعمل بهذا القول لأننا سنمتنع عن عمل الإحسان، وكأننا نقول للناس انتبهوا. إن عملتم خيرا، ستحصدون شرا! فعليكم باجتناب الخير لسلامتكم، وهذا أعجب ما سمعت؟!

فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه كان يتصدَّق على قريب له اسمه مسطح بن أثاثة، وحينما وقع حادث الإفك للسيدة عائشة رضي الله عنها، خاض مسطح في عِرض عائشة دون النظر لإحسان أبيها إليه، فقرر أبو بكر الصديق أن يمتنع عن التصدق عليه، فنزل قول الحق سبحانه وتعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور- 22). فعندما سمع الصديق هذه الآية قال: بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا وأرجع الى قريبه ما كان يصله به من مال.

8- (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وها هو الحق سبحانه وتعالى يُخبرنا عن جزاء من كانت هذه نيّته، (ويُطعمون الطعام على حُبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نُطعمكم لوجه الله لا نُريد منكم جزاءً ولا شكُوراً. إنّا نخافُ من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً. فوقاهم الله شرّ ذالك اليوم ولقّاهم نضرة وسرورا. وجزاهم بما صبروا جنَّة وحريرا...) الإنسان "8: 12".

وأخيراً أقول: حين نعمل لله تعالى وفي سبيله لا نعد نكترث أكافأنا الناس أم لا بكلمة طيبة؟! فمن تمام العمل الخالص لوجه الله تعالى أن نقابل الإساءة بالحسنة، لأن الإحسان إلى المحسن سهل على النفس، ولكن الإحسان إلى المسيء هو أعلى درجات الانتصار على النفس ونوازعها، ومن عظيم الأعمال أن تقابل شراً عظيماً اقترفه في حقك مسلم بالعفو والإحسان، فأعمال الشر درجات، وكلما كان الشر المقترف في حّقنا أكبر وأشدّ كلّما كان العفو والإحسان رافعاً لدرجاتنا، وكلما فعلنا ذلك زاد احتقارنا للدنيا وزادت نسبة خروجها من قلوبنا، فإن الدنيا كقطعة صوف مغروسة في القلب خشنة تأبى أن تخرج بلين ويسر وسهولة، وخروجها من القلب كلها لربما يصعب الوصول إليه إلا للأنبياء عليهم السلام، ولكن كثير ممن هم دون الأنبياء استطاعوا كما قرأنا عنهم أن يخرجوا جُلَّ تلك القماشة المتشبّثة بتلابيب القلب من قلوبهم.

ولاشك أن المؤمن كَيِّسٌ فَطِنٌ، لا يستغرق في حُسن الظن فيصل إلى السذاجة ولا يغرق في الحيطة والحذر فيقع في سوء الظن، ولذلك فالصحيح أنه لا يُنهى عن هذه العبارة ولا بأس بقولها في بعض المواقف أما على إطلاقها في منع الإحسان إلى الناس فلا. قال القرطبي في تفسيره (8 / 208): قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: قِيلَ لِلْبَجَلِيِّ أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى اتَّقِ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ،" (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ). "وفي كتاب اللطائف من علوم المعارف (1 / 299): قال أبو عُبَيْدٍ الْمَحَامِلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي عَوْفٍ، يَقُولُ: أَنَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً كُلَّمَا قَدِمْتُ بَغْلَتِي لأَرْكَبَهَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ. قال الشيخ الشعراوي رحمه الله في تفسيره (2 / 1148): حينما قالوا: «اتق شر من أحسنت إليه» شرحوا ذلك بأن اتقاء شر ذلك الإنسان بألا تذكِّره بالإحسان، وإياك أن تذكِّره بالإحسان؛ لأن ذلك يولّد عنده حقدًا.

اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم أن تجعلنا من عبادك المخلصين المحسنين الذين تُحبّهم يا كريم.

0 تعليقات

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم