MrJazsohanisharma

تأملات صوفية

قال سيدي منير القادري بودشيش: «مرض الشيخ ابتلاء يُرسَل إلى الفقراء (المريدين) ليُظهِر من يثبت منهم ويبقى وفياً لعهده، ومن يضعف ويُشتَّت».

ضرورة الابتلاء، ففي القرآن الكريم، حذّرنا الله تعالى من الظن بأن حياة المؤمنين ستكون خالية من الابتلاء. فقد ورد في سورة العنكبوت: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (٢٩:٢). فالابتلاء جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، ويأخذ أشكالاً متعددة مثل المرض، الخسارة، أو المصاعب المادية.

ابتلاءات أصحاب الأنبياء ومريدي الأولياء، إذا تأملنا قصص الأنبياء، نجد أن من رافقهم لم يسلم من الاختبار. خذ مثلاً قوم موسى عليه السلام: عندما ذهب إلى جبل الطور لاستلام الألواح، اختبرهم الله بقصة العجل رغم مشاهدتهم للمعجزات. كان هذا الابتلاء يهدف إلى التمييز بين من ظل ثابتاً على تعاليم موسى ومن انقاد لشهوات النفس.

وبالمثل، لا يُعفى المريدون من الاختبار، حتى بعد أن ينالوا بركات الصحبة ويتذوقوا حلاوة القرب من الله. فالسُنّة الإلهية ثابتة: العواصف تأتي بعد لحظات السكون، والسفينة التي تبحر تحت سماء صافية يجب أن تُختبر قدرتها على الصمود في وجه الزوابع.

الابتلاء: غربلة لصدق القلوب

فالابتلاء أشبه بعملية غربلة إلهية، يُمتحن فيها صدق الإيمان ونقاء التعلق بالطريق. بعد أن يفتح الله تعالى لعباده كنوزه، ينظر هل يحفظونها في قلوبهم أم ينسونها عند المحن.

الغافلون والابتلاء

الغافلون أمام الابتلاء ينقسمون إلى قسمين:

 • مَن يستيقظ من غفلته بسبب الصدمة، فيتأمل في معنى وجوده.

 • ومَن يستمر في غفلته، فتُترَك له الدنيا وملذاتها، كما قال الله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الحجر: ٣).

ابتلاءات مشايخ التصوف

في السابق، كان مشايخ الصوفية يختبرون إخلاص المريدين مباشرةً عبر مواقف أو أسئلة حرجة. لكن مع تجديد الطريقة على يد القطب سيدي حمزة، حلَّ الذكر المستمر محل هذه الاختبارات المباشرة. ومع ذلك، لا يعني هذا اختفاء الابتلاء، فالذكر أشبه بالدرع الذي لا يمنع المحن، بل يُقوّي القلب لمواجهتها.

حين تهب العاصفة، يصبح الذكر مصدراً للقوة والتحمل. ولهذا، يوصي سيدي حمزة وسيدي جمال بالإكثار من الذكر كاستعداد لما قد يأتي من محن. فكأنهما يقولان: «حصِّنوا قلوبكم بالذكر لتواجهوا المحن دون ضعف».

الحكمة من الابتلاء

الطريق إلى الله محفوف بالاختبارات، وكل سالك يجب أن يمر بها. إذا لم يختبر الشيخ مريديه مباشرة، فإن الله هو الذي يختبرهم. لكن الشيخ لا يتصرف وفق رغبته الذاتية، بل هو أداة لتجلّي الإرادة الإلهية.

مثال ذلك مرض سيدي جمال: لم يختر الشيخ مرضه ليختبر المريدين، بل هو ابتلاء إلهي. والطريقة التي يتفاعل بها المريدون مع هذا الوضع تكشف عن مدى ثباتهم وإخلاصهم. فليس الابتلاء عبثياً، بل هو وسيلة إلهية لتقييم الصدق في السلوك.

هكذا يُصبح مرض الشيخ اختباراً للمريدين، لكن قد تأتي اختبارات أخرى من الله، لأن العارف بالله لا يتحرك بإرادته الذاتية؛ فقد ذابت أنانيته، وأصبح وسيطاً للإرادة الإلهية.

القصة الحقيقية لمريدي شيخ عارف واجهوا الابتلاء

هذه القصة حقيقية، ولكن احترامًا للخصوصية والسرية، لن أذكر هويات الأطراف ولا الموقع الجغرافي ولا الفترة الزمنية التي حدثت فيها.

قبل عدة قرون، في إقليم إسلامي، عاش شيخ عارف بالله حكيم، تنير حكمته وروحانيته المنطقة. كان لهذا الشيخ العديد من المريدين، الذين ازداد عددهم باستمرار، حتى أصبحت زاويته مركزًا مشعًا للروحانية، يجذب ليس فقط طالبي الحقيقة، بل أيضًا الحسّاد.

ومن بين هؤلاء الحسّاد كان هناك ممثل محلي للسلطان، كان ينظر بتوجس إلى النفوذ المتزايد للشيخ. أكلته الغيرة، فبدأ يفرض عليه عقبات وابتلاءات متعددة، مُرسلًا إليه طلبات متكررة باسم السلطان: كميات من القمح، ورؤوس ماشية، ومبالغ مالية ضخمة. وفي كل مرة، كان الشيخ يستجيب لهذه المطالب بهدوء دون اعتراض.

كان يدرك أن هذه الطلبات ليست مجرد إجراءات إدارية، بل فخوخًا تهدف إلى استدراجه لارتكاب خطأ يُبرر إغلاق زاويته أو تدميرها. ومع ذلك، التزم الشيخ برسالته الروحية وخضوعه لإرادة الله، وواصل مواجهة هذه الابتلاءات بصبر وحكمة لا يتزعزعان.

تصعّد الممثل في إساءته. فقال للشيخ ذات يوم: “السلطان يطلب منك أن تتنازل عن زوجتك.”

أجاب الشيخ بهدوء: “لا أستطيع أن أُعطي ما لا أملك.”

رد الممثل: “استعد لقول هذا للسلطان نفسه. إنه ينتظرك. لقد استدعاك.”.

كان هذا الاستدعاء يعني حتمية الإعدام، لأن رفض أمر السلطان كان جريمة لا تُغتفر. جمع الشيخ مريديه وحذّرهم من خطورة الموقف، وسألهم: “من مستعد لمرافقتي؟” فتطوعت مجموعة منهم، وانطلقوا في رحلة طويلة نحو مدينة السلطان.

لكن مع تقدم الرحلة، بدأ الخوف من مواجهة السلطان يهز إيمان المريدين. عند كل منعطف أو مرتفع، كان واحد أو اثنان منهم يفرّون مختفين في الطبيعة. غلب الخوفُ إخلاصهم الأولي.

في نهاية الرحلة، لم يبقَ مع الشيخ سوى حفنة من المريدين، يُعدّون على أصابع اليد. كانوا الأوفياء، المستعدين لمواجهة أي خطر مع شيخهم، مهما كانت العواقب.

توقفوا في مُنْفَتحٍ صغير للراحة وتناول الطعام. بينما كانوا يأكلون بصمت، لاحظ المريدون أن الشيخ ابتعد قليلًا. جلس متقاطعًا، غارقًا في أفكاره، يلعب بغصين صغير التقطه من الأرض، يديره ببطء بين أصابعه وكأنه يتأمل سرًا خفيًا. ثم فجأة ثبّت الغصين وكسره بحركة حاسمة.

تبادل المريدون نظرات حائرة. لم يعتادوا من شيخهم مثل هذا السلوك الغريب.

واصلوا المسير، وعندما اقتربوا من المدينة، لاحظوا اضطرابًا غير معتاد عند الأسوار والأبواب. بدا الذعر يعم الأجواء. فجأة ظهر فارس يمتطي جوادًا مسرعًا، يحمل رسالة عاجلة. أوقف فرسه أمامهم وصاح: “إلى أين تتوجهون؟”

أجاب المريدون: “نحن مُستدعَوْن لدى السلطان.”

قال الفارس مذعورًا: “يا للبؤس! ألا تعلمون أن السلطان مات؟ اليومَ، أثناء الصيد، صَهل فرسه فقذفه على صخرة. تحطمت جمجمته على الفور. المدينة في حداد.”

تجمد المريدون من الصدمة، بينما تابع الفارس طريقه. قرروا العودة إلى الزاوية. طوال الوقت، بقي الشيخ صامتًا، كأنه يتأمل خيوط قدر إلهي يعلمه وحده.

وبعد البحث في سجلات التاريخ لتلك البلاد، وجدتُ أن السلطان في تلك الفترة مات فعلاً أثناء الصيد، وإن كانت تفاصيل موته مجهولة.

القضاء الإلهي: ابتلاء وعقاب

لم يتدخل الشيخ بذاته، بل كان أداة لإرادة إلهية تفوق الفهم: اختبار المريدين وعقاب الظالمين. ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف: ٨٢).

في الختام، ينبغي أن يتحلى المريد الذي يرافق شيخًا بمقام سيدي جمال أو سيدي حمزة بيقظة دائمة وحساسية روحية، تمكنه من تمييز طبيعة الابتلاء الذي وضعته القدرة الإلهية في طريقه قبل غيره، وفهم الطريقة المثلى لتجاوزه، ليحوله إلى رافعة للتحول الداخلي والارتقاء الروحي.

هذا التأمل يُلقي مزيدًا من الضوء على كلام سيدي منير في مداخلته بتاريخ ٢ فبراير، حيث قال: «سمعت بعض المريدين يروجون فكرة أن سيدي جمال لا يعي ما يقول وأنه خاضع لضغوط.»!

إن ابتلاء المرض الذي أصاب الشيخ يتمثل تحديدًا في كشف أولئك الذين، رغم المحن، حافظوا على ثقتهم الكاملة به، وأولئك الذين تركوا الشك يتسلل إلى قلوبهم، حتى أصبحوا يرونه كائناً قابلًا للتأثير وأداة يمكن التلاعب بها حسب الأهواء. وهكذا يصبح هذا الابتلاء غربالًا روحيًا يفصل بين الحَبِّ والتبن، ويشكل معيارًا يُميّز القلوب الصادقة من تلك التي لا تزال مقيدة بالشك والوهم.

0 تعليقات

إرسال تعليق

Post a Comment (0)

أحدث أقدم