الحمد لله رب العالمين, الذى أنعم على عباده المؤمنين بالتقوى واختار لهم معيته بعروجهم لمقام الصادقين فقال فى كتابه الحكيم:" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ" التوبة 119 والصلاة والسلام على الصادق الأمين حضرة سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
إعلم أن إطلاق اللسان من ذميم الخصال, فيوقع المرء فى براثن الاتهام من: ذكر المعاصى, والمراء, والخصومة, والتشدق بالكلام من تكلف السجع, والتصنع, وما يأتى به من الفُحش, واللعن, والسخرية, والإستهزاء, والكذب, والغيبة والنميمة, وإطلاق الشائعات بالكذب والبُهتان والخوض فيما هو مُحرم. فهى آفة مُهلكة, لذا حث المولى عز وجل على الأًحسن من الكلام فقال فى كتابه العزيز:" وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا" الإسراء53 وقال تعالى :" لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" النساء 114، وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا" الأحزاب 70.
إن آفة اللسان تتفتق منها معظم القبائح ؛ لذا فهی مُهلکة. من هنا مدح حضرة سیدنا رسول الله صلی الله علیه وسلم، الصمت وحث علیه، کما أمر به أصحابه فقال :" مَنْ صمت نجا" وقال :"الصمت حکمة وقلیل فاعله" وقال لسیدنا معاذ بن جبل:" وهل یُکب الناس فی النار علی مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
مِن هنا عَلِم صحابة سیدنا رسول الله صلی الله علیه وسلم أنه قد آن وقت العمل ولا مجال لثرثرة کلام لا فائدة منها، فقد کان سیدنا أبو بکر الصدیق رضی الله عنه یخاف من فلتات اللسان، فیضع فی فمه حصاة لتمنعه من التکلم ویقول:" هذا الذی أوردنی الموارد القبیحة ویُشیر إلی لسانه".
إعلم أن ثرثرة الکلام فیما لا یعنی وما هو كاذب وإطلاق الفُحش من الشائعات تزید فى قساوة القلب الصدأ والران، قال تعالى:" كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" المطففين 14، كما تسقى البدن شرور ظلمات الظُلم والبُهتان بخيانة الأمانة التى حملها الإنسان، لأن لسان المرء أسده إن أطلقه أکله، ولا یستقیم القلب واللسان حتی یستحی الإنسان من المولی عز وجل ویترك مداخل الشیطان.
من هنا وجب على مَنْ ابتغى حقيقة الإيمان تعظیم حُرمات العباد فقد قال الحق سبحانه وتعالی:" وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ" الحجر 88 وقال:" وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ" الحجرات 12 وقال صلی الله علیه وسلم :" مَثل المؤمنين فی توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثل الجسد ،إذا اشتکی منه عضو تداعی له سائر الجسد بالسهر والحمی".
کما یجب حفظ أعراض الناس والوقوف بجانبهم فإن الحبیب صلی الله علیه وسلم قال: "من نَفس عن مؤمن کربة من کرب الدنیا، نَفس الله عنه کربة من کرب یوم القیامة، ومن یَسر عن مُعسر یَسر الله علیه فی الدنیا والآخرة، والله فی عون العبد ما دام العبد فی عون أخیه.... ".
على هذا وجب تحرى الصدق والورع فى الكلام, كى لا يقع الإنسان فى براثن التعصب والفتن فيظن أنه ناجِ منها, لكنه يقع فيها ويحمل ذنب غيره معه مِمَنْ استهوته هذه الفتن التى لم ولن تولِد إلا الخيانة والدمار والفرقة والتباعد بين العباد.
إن آفة الثرثرة وإطلاق الشائعات بغير علمٍ يتولد منها الفُحش والبذاءة والفتن التى نهى عنها حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لقوله:" إياكم والفُحش, فإن الله تعالى لا يُحب الفُحش ولا التفحُش." وقد قال ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله تعالى:" يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا" الكهف 49: إن الصغيرة هى التبسم بالإستهزاء بالمؤمن، والكبيرة هى القهقهة بذلك. مطاوعاً بذلك شهوته من إعجاب المرء بنفسه. وذلك مما نهى المصطفى صلى الله عليه وسلم عنه حيث قال:" إذا رأيت شحاً مطاعاً, وهوا متبعاً, وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بنفسك." وقال صلى الله عليه وسلم:" ثلاث مهلكات: شُح مُطاع, وهوى مُتبع, وإعجاب المرء بنفسه."
ولنا فى صحابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة الحسنة بسؤال البشير النذير والسراج المنير فيما تكون النجاة؟ فقد قال عقبة بن عامر: قلت يارسول الله ما النجاة؟ قال:" أمسك عليك لسانك, وليسعك بيتك, وابكِ على خطيئتك". وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت." وقد كان الإمام الغزالى رحمه الله يقول: ما فُضل سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه بكثرة صيام ولا صلاة وبكثرة فتوى ولا كلام, لكن بشئ وقر فى صدره فهذا ما شهد له سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بذلك, فليكن الحرص فى طلب ذلك السر المكنون فإنه الجوهر النفيس والدر المكنون.
إعلم أن حمایة الأوطان من المهالك تُحتم علی الجمیع التخلی عن ثرثرة الکلام بما لا فائدة منه وبث الشائعات والأکاذیب لعدم الوقوع فی المحظورات ،والتحلی بالصدق والإخلاص فی القول والعمل فقد قال صلی الله علیه وسلم :" إن مِن أَحبکم إلی وأقربکم منی مجلساً یوم القیامة، أحاسنکم أخلاقاً، وإن أبغضکم إلی وأبعدکم منی یوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفیهقون، قالوا یا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفیهقون؟ قال: المتکبرون". فالثرثارون هم کثیرو الکلام تکلفاً، والمتشدقون هم المتطاولون علی الناس بکلامهم.
من هنا حث المصطفى صلی الله علیه وسلم علی الکلم الطیب فقال:" الکلمة الطیبة صدقة" وقال:" مَن کان یُؤمن بالله والیوم الآخر فلیقل خیراً أو لیِصمت" کما حث علی عدم إیذاء الناس بعضهم لبعض، فعن أبی موسی رضی الله عنه قال: قلت: یا رسول الله أی المسلمين أفضل؟ قال:" مَن سَلِم المسلمون من لسانه ویدیه".وعن ابن عمر رضی الله عنهما قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم:" لا تکثروا الکلام بغیر ذکر الله، فإن کثرة الکلام بغیر ذکر الله تعالی قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسی".
فمن أراد أن یقف علی أعتاب البر فلیتحری الصدق ویتحلی به، ویتخلی عن الکذب فقد قال صلی الله علیه وسلم :" إن الصدق یهدی إلی البر وإن البر یهدی إلی الجنة، وإن الرجل لیصدق حتی یُکتب عند الله صدیقاً، وإن الکذب یهدی إلی الفجور وإن الفجور یهدی إلی النار، وإن الرجل لیکذب حتی یُکتب عند الله کذاباً".
إرسال تعليق